إظهار جميع النتائج

مستجدات فيروس كورونا (كوفيد-19)

للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر

قصة | المجتمع
30 March 2021

بلسان حاله: هل تؤثر السيارات على هويتنا الثقافية؟

مشاركة

مصدر الصورة: Naseem Mohammed Bny Huthil، عبر موقع REUTERS

عبد الرحمن المانع، خريج أكاديمية قطر - الدوحة، التابعة للتعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر، ومخطط عمراني، يكتب عن أهمية بناء المدن من أجل الأفراد، لا السيارات

"المدينة" ليست مجرد مجموعة من المباني الشاهقة والشوارع والبنية التحتية. إنها أكثر من ذلك بكثير. المُدن تنبض بالحياة من خلال أفرادها، وبما فيها من الدفئ والأمان الذي تعيشه الأسر في منازلها، والكهل صاحب مغسلة الملابس "الدوبي" في الحي الذي تقطن فيه.، وتملؤها ذكريات الطفولة، حينما كنت تركب دراجتك باتجاه البقالة "الدُكّان" لشراء وجبة خفيفة في وقت الظهيرة، وصوت المؤذن الذي استمعت إليه طوال العشرون عامًا الماضية يرفع الآذان داعيًا للصلاة في المسجد.

ما يربطنا بالحيّ الذي نسكن فيه هو الناس، والذكريات، والمكان الذي مهما تغيّر وتطور، نبقى دائمًا نشعر بالألفة فيه

عبد الرحمن المانع

ما يربطنا بالحيّ الذي نسكن فيه هو الناس، والذكريات، والمكان الذي مهما تغيّر وتطور، نبقى دائمًا نشعر بالألفة فيه. هذه البيئة هي أكثر بكثير من مجرد الهياكل المادية التي نراها، فالناس هم من يبنونها ويسكنونها ويعيدونها للحياة.

ذات مرة، كتب لويس ممفورد، المؤرخ والفيلسوف الأمريكي الشهير، ومختص بدراسة المدن والهندسة المعمارية الحضرية: "ابنوا المُدن لتكون مكانًا للأصدقاء، لا للسيارات"، هذه المقولة تسعدني، لأنها تعكس شعورًا أؤمن به بشدة، ولكن ليس بالمعنى الذي يشير إلى بناء المدن للناس، بل لإشارة ممفورد إلى المشاة على أنهم "أصدقاء"، مما يضفي طابعًا إنسانيًا على طريقة تفكيرنا في التفاعل بين البنية التحتية والأشخاص.

عبد الرحمن المانع

ولدت وترعرعت في مدينة الدوحة، في وطني قطر، وشهدت التوسع العمراني السريع، ولم يسعني إلا أن أكون مفتونًا بمدنها، ومبانيها، وشوارعها، إن مشاهدة الطرق تتعمر وناطحات السحاب ترتفع من الشواطئ الرملية الهادئة، بعكس ما اعتدنا عليه من مسارات متعرجة وضيقة في وسط المدينة القديمة كان له أثر عميق في مراحل طفولتي ونشأتي.

يعود فن بناء المدن إلى ما قبل تاريخ السيارات. لقد عشنا في المدن منذ الثورة الزراعية الأولى منذ 10 آلاف عام قبل الميلاد، حين كان تركيز الناس منصبًا على تطوير الحرف وطرق التجارة الأخرى، لقد تغير نهجنا وفهمنا للمدن بشكل كبير خلال القرن العشرين، فقبل ظهور صناعة السيارات، كانت المدن تتشكل بالطريقة التي يمكن للأفراد أن يسيروا في طرقها بشكل مريح، وهذا ما كان يُحدد أين يعيش الأفراد ويذهبون للتسوق والعمل.

لقد تغير نهجنا وفهمنا للمدن بشكل كبير خلال القرن العشرين، فقبل ظهور صناعة السيارات، كانت المدن تتشكل بالطريقة التي يمكن للأفراد أن يسيروا في طرقها بشكل مريح

عبد الرحمن المانع

إن اعتماد وسائل النقل الجديدة سمح لمدننا بالتوسع بطرق مختلفة، فقد توسعت خطوط الترام والقطارات في مدننا، وبالتالي أنشأت مجموعات كبيرة من الناس في كل مكان توجد به مسارات. وقد ساهمت عربات الأحصنة في توسيع نطاق حركة الناس وتنقلّهم خلال اليوم. وأخيرًا، سمحت السيارات، والتي تعد أحدث وسائل النقل الحضري وأكثرها تطورًا، لمدننا بالتوسع أفقيًا، ويمكنها أن تصل إلى أي مكان يمكن للمرء أن يعمر فيه الأرض.

التركيز المتزايد على السيارات يعني أنه كان علينا تخصيص مساحة كبيرة لها، فغالبًا، يكون الاستخدام الأساسي لمساحات الأرض في معظم المدن مخصصًا للسيارات، وهذا ما نفكر فيه عندما نرى مقدار الأراضي المخصصة في مدننا للطرق ومواقف السيارات. لقد تغيرت مفاهيمنا عن الشوارع بشكل جذري، فمنذ زمن طويل، مضت تلك الأيام التي كان يعتمد فيها الأفراد على المشي في الشوارع وبين الحارات، فاليوم، أصبحت الطرق أكبر وأوسع، والتي في أغلب الأحيان نقسمها لتقريب الضواحي من مركز المدينة.

أدى هذا النهج في بناء المدينة إلى خسارة العديد من الأحياء، علاوة على ذلك، عند تصميم الطرق السريعة لم يتم وضع الإنسان في عين الاعتبار، وبديهيًا، لا يمكن للأفراد عبور طريق سريع مكون من 8 مسارات بشكل مريح حيث تسير فيه السيارات بسرعة 80-100 كم/ساعة، وبالتالي، نحن نجبر سكان المدينة على التحرك باستخدام السيارات.

كان يُنظر في السابق إلى منطقة الخليج على أنها مشهد صحراوي شاسع، وساحة بناء للمعماريين والمهندسين لجلب رؤى وممارسات الحداثة دون القلق بشأن الوضع القائم

عبد الرحمن المانع

كان يُنظر في السابق إلى منطقة الخليج على أنها مشهد صحراوي شاسع، وساحة بناء للمعماريين والمهندسين لجلب رؤى وممارسات الحداثة دون القلق بشأن الوضع القائم، وهذا، وضع السيارة في على رأس ممارسات بناء المدن في المنطقة.

كما أن تصور المدن الخليجية على أنها أمر جديد وناشئ هو تصور خاطئ، ففي حين أن المدن الساحلية في الخليج لم تكن كبيرة جدًا مقارنة بغيرها، إلا أنها كانت مراكز تجارية حيوية، وهي "جديدة" فقط في النطاق الموجود حاليًا، فموقعها الجغرافي على الساحل لا يعني فقط أنها جزء من شبكة إقليمية من البلدات الساحلية الأخرى في المنطقة، بل كذلك جزء من المدن الساحلية في شرق إفريقيا وشبه القارة الهندية.

هذه النوعية العابرة للحدود تنفرد بها الحضارة الخليجية، وتظهر في الهوية الثقافية للمنطقة مما يجعلها متميزة عن العالم العربي الأكبر. في الواقع، إن الكلمات المستعارة من الفارسية، والهندية، والتركية، والإنجليزية تظهر مدى الاتصال بالعالم الأكبر: فالتطورات الثقافية لم تكن لتحدث لو لم توجه هذه المجتمعات نفسها نحو الحياة الحضرية.

كان النهج الخليجي في بناء المدينة هو النهج الذي أعطى الأولوية للناس واحتياجاتهم، حيث أدى التركيز على الحفاظ على خصوصية المنازل وحمايتها فيما يتعلق بالأسواق إلى إنشاء أزقة ومسارات ضيقة ومتعرجة تربط أحياء المدينة، والمعروفة بالعامية باسم "السِكّك"، وهي الأزقة الضيقة بين قطع الأرض. أنشأت "السِكّك" بيئة شجعت الناس على التحرك سيرًا على الأقدام، وغالبًا ما كانت الجدران من المنازل تلقي بظلالها على ممرات المشاة، وكان اتجاه الشوارع باتجاه الرياح الشمالية الباردة، مما يوفر للناس نسيمًا باردًا لطيفًا.

اليوم، نواجه الكثير من التحديات عند الحديث عن تقييد المساحات المخصصة للسيارات، سواء كان ذلك لتصغير الشوارع أو إزالة ساحات الانتظار، غالبًا ما يلاحظه المهندسون والمخططون العمرانيون هو أن أفراد المجتمع ببساطة لا يعتمدون على المشي في حياتهم، لكن عند الرجوع إلى النسيج العمراني القديم لقطر، يتضح

أن الأمر لم يكن كذلك. لقد أثرت ثقافة "قيادة السيارات" الجديدة التي تطورت مع الحداثة خلال الطفرة النفطية على الثقافة المحلية بشكل كبير. لم يعد الناس يذهبون من المنزل إلى أماكن النشاط التجاري سيرًا على الأقدام، بل يتنقلون بسيارتهم إليها.

من الواضح أن التركيز على السيارات يثير العديد من التساؤلات، لاسيّما من حيث الحفاظ على الهوية الاجتماعية والثقافية الفريدة. بدورنا كأفراد من مجتمع مدينة الدوحة، فإننا نحرص على إبراز فرادة هذه المدينة وما تتمتع به من مميزات. فالفكرة التي تشير إلى أن المدن مثل الدوحة هي مساحة للمهندسين والمعماريين لتطبيق رؤيتهم لناطحات السحاب اللامعة والهياكل الضخمة هي ببساطة فكرة خاطئة، ولكي نعيد ثقافتنا مرة أخرى إلى دائرة الضوء، يجب أن نبدأ بالتخلي عن السيارات وتحديد مكانتها في مدننا.

وأخيرًا، يجبُ علينا أن نسأل أنفسنا: هل تؤثر السيارات فعلاً على هويتنا الثقافية؟

عبد الرحمن المانع، مخطط عمراني بوزارة البلدية والبيئة في قطر، وخريج أكاديمية قطر - الدوحة، إحدى المدارس التابعة للتعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر. بعد تخرجه من برنامج الدراسات الحضرية والإقليمية في جامعة كورنيل، عمل المانع على تعزيز مبادئ وممارسات بناء المدن الخليجية بهدف إقامة مدن أفضل وأكثر استدامة. يمكنك قراءة المزيد من مقالات وأفكار عبد الرحمن حول التمدن العربي على مدونته مدن من الملح

قصص ذات صلة