للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
على البقعة التي كانت في الماضي منزلًا لأحد تجار الرقيق في الدوحة، شُيّد متحفٌ يروي تاريخ ماضي الاسترقاق الذي يعجز عنه الوصف.
في إحدى غرف بيت من بيوت الدوحة القديمة الأنيقة، تُعرض شهادةٌ مصورةٌ لسيدة محلية تروي قصة أجدادها الذين جاؤوا إلى الدوحة كرقيق وتعرضوا للاضطهاد. لم يكن هذا البيت عاديًا، فقد كان يملكه أحد تجار الرقيق، وفي ساحته قبل أقل من مائة عام كان الرقيق يُحتجزون ويباعون.
ليست هذه الشهادة إلا واحدة من شهادات كثيرة معروضة على جدران البيت الذي غدا الآن متحفًا يعرض قضية الاسترقاق، وسُمّي "جلمود"، بمعنى الصّخرة، كنايةً عن قلوب تجار الرقيق التي تُشبه في قسوتها الصخر. ويُعدّ المتحف أول منشأة في المنطقة تُخصص لاستعراض تاريخ تجارة الرقيق في المحيط الهندي، وهي تجارةٌ كانت رائجةً حتى بداية القرن العشرين في دول خليجية مختلفة.
في هذا السياق، قال الدكتور حافظ علي عبدالله، رئيس "متاحف مشيرب" التي تدير بيت بن جلمود: "لا توجد لدينا مؤسسة تسلّط الضوء على تاريخ الرق في الشرق الأوسط".
يُعد المتحف، الذي افتُتح رسميًا في عام 2015، واحدًا من أربع بيوت تاريخية تحوّلت إلى متاحف على يد مشيرب العقارية التابعة لمؤسسة قطر. تُسلّط البيوت الأربعة الضوء على جوانب مختلفة من التطوّر الثقافي الاجتماعي القطري، والتراث المتمثل في تاريخ البناء، والحياة المحلية القطرية، وصعود صناعة البترول. ويُركّز بيت بن جلمود، وهو أكبر الأربعة، على إسهام الرقيق في تطوير دولة قطر.
يضم المتحف معارض متنوعة، بدءًا من شهادات الرقيق، ودور الإسلام في تنظيم الرق، وصولًا إلى دمج الرقيق في المجتمع، وانتهاءً بإلغاء الرق.
عودةٌ إلى تلك الغرفة، حيث تروي الشهادة المصورة المعاملة غير الإنسانية للرقيق واستمرار الظلم لعدة أجيال، مُسلطةً الضوء على موضوع ذي حساسية شديدة نادرًا ما يرِد في الخطاب العام.
أشار الدكتور عبدالله إلى أنّه "كان من الصعب إقناع الناس [بمشاركة قصصهم]. وتمثّلت أول ردودهم العفوية في السؤال: ما الداعي للحديث عن هذه القصص التي طواها الزمن؟"
ووفقًا لفهد التركي، مدير المعارض في متاحف مشيرب، كان على قيّمي المتحف العمل على نحو يتسم بالسرية قبل إطلاق المتحف، ليس فقط لما تقتضيه طبيعة العمل في المتاحف عمومًا، وإنما أيضًا بسبب الإدراك التام لحساسية الموضوع. كما استدعى الارتباط العاطفي للموضوع بالشعب القطري مزيدًا من الحذر في تأطير القصة على نحو لا يؤذي مشاعر الناس ويُظهر بدقة إسهامات الرقيق في المجتمع.
حال دخولهم إلى أروقة المتحف، يستطيع الزوار الذهاب في رحلة حول تاريخ الرقيق.
بيتُ بن جلمود واحدٌ من أربعة بيوت في الرباعية التراثية لمتاحف مشيرب.
جاءت فكرة المتحف عند اكتشاف بيت تاجر رقيق سابق خلال إعادة بناء منطقة "مشيرب قلب الدوحة" المبنية على الاستدامة والتخطيط الحضري الحديث. ويشير الدكتور عبدالله إلى أن بناء هذا المتحف لم يكن ممكنًا لولا دعم صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس كل من مشيرب العقارية ومؤسسة قطر، ورغبتها في استخدام المتحف لتثقيف الناس بشأن فترة مهمة في تاريخ البلاد.
"الاسترقاق أكبر من أن يكون قصة فرد واحد أو دولة واحدة. هو حالة وُجدت لآلاف السنين. ونحاول معًا الارتقاء بالتعاطي مع الاسترقاق إلى ما يتجاوز مجرّد إلقاء اللوم، بل نتعدى ذلك إلى إظهار أهمية تعزيز الوعي بهذه المسألة"
أضاف الدكتور عبدالله قائلًا: "نعتقد أن البيت وسيلة عظيمة لاستكشاف ومعالجة جانب ضروري ومهم من تاريخ البلاد، وإيجاد طريقة لتثقيف جيل الشباب بشأن الماضي وجذور الاسترقاق في العالم. وعندما أدرك الناس الهدف من وراء إنشاء المتحف، قالوا: هذا شيء نحتاجه لتثقيف الآخرين".
وفي حين أن متاحف عديدة في الغرب تسلّط الضوء على الاسترقاق عبر الأطلسي، لا يقتصر هدف بيت بن جلمود على التوعية بتاريخ الاسترقاق عبر المحيط الهندي وحسب، بل يسلّط الضوء أيضًا على تطوّره إلى أشكال أخرى من استغلال البشر بمختلف أنحاء العالم. ولا يُغفل المتحف معالجة مسألة الرق الشائكة بمنطقة الخليج في العصر الحديث، إذ يعرض صورًا لعمال مهاجرين من دولة قطر ودول أخرى لتسليط الضوء على سياسات العمالة القاسية، والتي يسميها "العبودية التعاقدية".
وأوضح الدكتور عبدالله قائلًا: "الصدق والشفافية خصلتان تشتهر بهما دولة قطر. وهذه هي القوة التي يتمتع بها هذا المتحف: قوة الصدق والشفافية".
يتضمن معرض الرقيق في العصر الحديث صورًا لعمال بناء من الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول الخليج.
الأثمان التي كان الرقيق يُباعون بها حسب العمر والصحة والبنية الجسدية.
يركز المتحف بالدرجة الأولى على شبكة الرقيق التي كانت موجودة في منطقة المحيط الهندي.
تتحاشى دول عديدة حاليًا الإقرار بكل ما كان يربطها سابقًا بالعبودية واستغلال البشر، في حين أن بيت بن جلمود، ومتاحف مشيرب الأربعة ككُل، تعد مشروعًا جريئًا تُقرّ فيه دولة قطر بماضيها من أجل صناعة مستقبلها.
أضاف التركي قائلًا: "الاسترقاق أكبر من أن يكون قصة فرد واحد أو دولة واحدة. هو حالة وُجدت لآلاف السنين. ونحاول معًا الارتقاء بالتعاطي مع الاسترقاق إلى ما يتجاوز مجرّد إلقاء اللوم، بل نتعدى ذلك إلى إظهار أهمية تعزيز الوعي بهذه المسألة".
الدكتور حافظ علي عبد الله، مدير "متاحف مشيرب"، قال إن التجربة العاطفية التي يحظى بها الزوّار هي أهم ما يقدمه المتحف.
أطلق فريق متاحف مشيرب برامج عديدة بالتعاون مع مدارس محلية ودولية في دولة قطر، لتثقيف الطلاب والمدرسين بالقضايا التي يعالجها. وقد لقي عملهم صدىً دوليًا، مثل حصولهم على جائزة أفضل برنامج للممارسات التعليمية من قبل اللجنة الدولية للأنشطة التعليمية والثقافية (CECA)، التابعة للمجلس الدولي للمتاحف ومقره في فرنسا.
كما تعاون الفريق مع السفارة الأمريكية في قطر لزيادة وصول التقرير السنوي حول الإتجار بالبشر الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية، ويتحدث عن الإتجار بالبشر بهدف العمالة القسرية والعبودية الجنسية وأغراض استغلالية أخرى.
تعكس الشهادة المصورة الهدف من إنشاء المتحف، وتنتهي بامرأة تتحدث عن كون بيت بن جلمود "متنفسًا لكل إنسان يحمل في أعماق ذاته ندبة ألم ومعاناة، ناهيك عن الأعباء الثقيلة التي رافقت هذه العنصرية".
قال الدكتور عبدالله: "[هذا المتحف] دعوة للجميع ليبحثوا ويتعلموا المزيد ويسهموا في الحوار. الفكرة بالنسبة لنا هي امتلاك متحف وتراث ينبضان بالحياة".