للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
الدكتورة القطرية الريم عبدالرحمن النابت، خريجة كلية وايل كورنيل للطب – قطر، إحدى الجامعات الشريكة لمؤسسة قطر، وهي في السنة الرابعة من مرحلة الدراسات العليا، لدراسة تخصص الجلدية في جامعة ماكغيل، مونتري، تروي يومًا من حياتها على خط المواجهة الأمامية لرعاية مرضى "كوفيد-19"
5:30 صباحًا
استيقظت قبل صوت المنبه، قمتُ بإعداد قهوتي الصباحية، والآن في طريقي إلى العمل، أقود سيارتي بنفسي، لأنه أكثر أمانًا. هذا الروتين اليومي أصبح عادة ناجمة عن جائحة "كوفيد-19".
كصباح يوم عمل روتيني، هادئ بشكل مخيف، فهذا الهدوء يتعارض مع وجهتي: المستشفى اليهودي العام، وهو مستشفى تعليمي تابع لجامعة ماكغيل، وهو الآن مركز لعلاج المصابين بفيروس "كوفيد-19"، وخط المواجهة الأمامية في مونتريال للتصدي للفيروس.
7:30 صباحًا
وصلتُ إلى المستشفى، أثناء ركن سيارتي والسير نحو مدخل المستشفى، رأيتُ بعض الأشخاص في الخارج يقفون عند المدخل الرئيسي، يهتفون علينا بكلمات من الامتنان والتشجيع؛ فهم يدركون مدى خطورة ما نخطو إليه.
محطتي الأولى هي غرفة التعقيم لإرتداء الثوب الجراحي. ومن الغريب، أنه قبل جائحة "كوفيد-19"، نادرًا ما كنت أرتدي من الأثواب التي يتم توزيعها في المستشفى.
جميعنا ملثمين اليوم، نلفُّ أنفسنا بثوب للحماية بالكامل، حتى أصبح من الصعب التفريق بين شخص وآخر. فالجميع يرتدي الثوب الجراحي في المستشفى، من الأطباء المعالجين إلى موظفي خدمة التنظيف. فقد أزال فيروس يبلغ قطره 120 نانومترًا الإحساس بالتسلسل الهرمي، وأوصلنا ذلك إلى حقيقة مفادها أنه بغض النظر عن مدى صغر مساهمتك، فهي مهمة، وأننا جميعًا في مواجهة هذا الأمر معًا.
7:45 صباحًا
توجهت إلى غرفة الاجتماعات، التي تقع على بعد 3 دقائق سيرًا على الأقدام، لكن بسبب القيود المفروضة على الممرات، استغرق الأمر ثماني دقائق.
في طريقي، مررتُ على مجموعة من الأشخاص في الرواق، إنهم مرضى، هل تسائلتم كيف عرفت ذلك؟ من مظهرهم الخارجي المتعب، الخوف والحيرة في عيونهم، الرعب في نظراتهم يشرح كل شيء، فهم لا يريدون التواجد هنا، لا سيما الآن.
كوني أتمتع بصحة جيدة، يشعرني ذلك بالامتياز، والعجز في الوقت نفسه، في بعض الأحيان أجدُ نفسي أعتذر للمرضى لا إراديًا، مرددةً "آسفه لأنكم في هذا الموقف"، "آسفه لوجود هذه الجائحة" ... ما أحاول أحيانًا قوله هو "أنني آسفه لأني عاجزة عن تقديم المزيد".
8:00 صباحًا
أجلس في غرفة الاجتماعات، تبدأ الطبيبة المناوبة، المعروفة بـ "المراقب الليلي"، في إطلاعنا على عدد المصابين الجدد بفيروس "كوفيد-19" وحالاتهم، والذين تم إدخالهم إلى المستشفى خلال نوبتها المسائية. وفي كل مرة أسألها كيف سارت نوبتها، وإذا تمكنت من أخذ قسط من النوم.
النظرة في عينيها تشرح كل شيء: هذه هي أسوأ الليالي التي مرت بها على الإطلاق كطبيبة مناوبة مع التدفق الهائل والمستمر للمرضى، الذين يبدو عليهم التعب والإرهاق.
في هذه اللحظة، إنها تقدم لنا المستجدات حول حالة مرضانا الحاليين: على سبيل المثال، السيدة هذه لم تكن على ما يرام الليلة الماضية، والسيد هذا بحاجة إلى عناية فائقة.
8:25 صباحًا
نتوجه جميعًا إلى الطابق السفلي وتحديدًا إلى وحدة "كوفيد-"19، أو كما نشير إليها "المنطقة الخطرة". هنا، يتم فيها تأكيد عدد المرضى المصابين بالفيروس.
قبل دخولنا للوحدة، نرتدي مجموعة أدوات الوقاية الشخصية، أنا ممتنة لأنه لدينا كل ما نحتاج إليه؛ هذا يشعرني بالأمان والحماية، من أجل الحفاظ على النظافة والسلامة، نحن مضطرون لترك هواتفنا وأقلامنا ودفاتر ملاحظتنا بالخارج، ففي "المنطقة الخطرة" نكون معزولين عن كل شيء.
8:40 صباحًا
في الداخل، نقوم بجولاتنا الأولى لمعاينة المرضى، والإطمئنان على حالتهم الصحية، نعالج إي مضاعفات قد تظهر خلال الساعات القادمة. كأطباء، هذا أمر يفوق تصوراتنا، جمعينا غير مرتاحين بالتعامل مع مرض لا زلنا نجهله، نخوض تعلّم شيء جديد كل يوم.
10:00 صباحًا
بينما نسير في جولاتنا، يرافقنا جهاز كمبيوتر على عجلات، لدينا أيضًا جهاز الآيباد، نستخدمه للسماح للمرضى بالتواصل مع أسرهم وأحبائهم، تطبيقًا لسياسات منع الزيارات في معظم المرافق المخصصة "لـكوفيد-"19، غالبًا ما يشعر المرضى بالوحدة، ونحن الوسيلة الوحيدة التي تربطهم بالعالم الخارجي وبعائلاتهم.
عندما أقوم بتشغيل جهاز الأيباد لأحد المرضى، أعود بذاكرتي إلى فترة التدريب الميداني في المستشفى، تعلمنا فيها أن نكون رحيمين وأن نبني علاقات جيدة مع المرضى المصابين بأمراض خطيرة وأسرهم. لكن هل يمكننا اعتبار أننا حققنا ذلك عبر القنوات الرقمية؟ كلا، لم يبقى شيء على حاله، لذا، فإن استخدام منصة رقمية لإجراء مناقشة حول ما يجري في العالم مع ابن المريض أو ابنته هو "الوضع الطبيعي الجديد".
أبدأ مع المرضى الأكثر تضررًا من المرض، وبينما أنتقل من غرفة إلى أخرى، أشعر بدفئها، من شدة ذلك تزداد ضبابية قناع وجهي.
10:45 صباحًا
قمت بالاتصال بزوج مريضة لم يرها زوجها منذ دخولها إلى وحدتنا، إذ أنه لم يتمكن من التحدث إليها عبر الهاتف، لذا استخدمت جهاز الآيباد لإجراء مكالمة فيديو معه.
عندما أجاب، رأيت على وجهه ما يشعر به، مزيج من الترقب والخوف والحب. هو يتحدث، وهي تسمع صوته من خلال الشاشة، لأول مرة منذ أيام، تستجيب! حينها رأيت وشعرت بالصراع داخلها، فقلبها فتح جفونها المثقلة، وعندما رأته، أضاء وجهها.
ممتنة لغطاء وجهي الضبابي؛ فلا أحد يرى عيناي وهي تُغرورق بالدموع، أقف من دون أي حركة؛ غارقة في ثوبي الجراحي، أشعر وكأنني متطفلة. بينما أشاهدهم يتفاعلون معًا، لسان حالي يقول: "هذا سبب تواجدي هنا". بصفتي طبيبة في الأمراض الجلدية، قد لا أكون الأكثر خبرة في معالجة المضاعفات المتعددة التي تتأثر بها المريضة. لكن كإنسانة، تمكنت من تقديم نوع مختلف من العلاج: الحب في زمن "كوفيد-19".
11:30 صباحًا
انتهيتُ من معاينة آخر المرضى لليوم، بسبب الحرارة والرطوبة أشعر بحكة في وجهي، لكني لا أجرؤ على لمسه. حتى إن انزلقت نظارتي على جسر أنفي، لا يمكنني إعادتها خوفًا من أن يكون هناك جسيمات فيروسية عالقة عليها. عادة ما أستخدم الأعواد الخشبية الطبية المعقمة لوقف الحكة وإرجاع نظارتي إلى مكانها. قد أحتاج غدًا شريطًا لاصقًا يثبت نظارتي على وجهي، وشريط عاطفي يبقينا متماسكين، يذكرنا بأننا سنتخطى هذه المحنه معًا.
في نهاية الجولة، أُدخل ملاحظاتي على النظام الإلكتروني، أحاول جاهدة في كل مرة الكتابة بهذه القفازات السميكة ذات الأكمام الطويلة. شفتاي جافتان، أشعر بالعطش، لكن يجب علي الانتظار حتى الخروج من هنا. أفتقد حقًا القدرة على المشي بحرية في هذه القاعات، وأنا أحمل قهوتي في يدي، يبدو أن كل ما كنت أراه أو أفعله سابقًا وكأنه كان أمراً خياليًا.
11:50 صباحًا
ننهي جولاتنا، ويحين وقت "الإجلاء"، طريقة رائعة لقول "إزالة مجموعة أدوات الوقاية الشخصية". ما يحدث عن إزالتها على النقيض تمامًا مع حالنا عند ارتدائها، الواقع أن حركاتنا ــ بالحركة البطيئة ــ تذكرني بالصور التي بثت لأول عملية هبوط للإنسان على سطح القمر، فنحن نقوم بذلك بحذر شديد، لأننا نعلم أنه عند إزالة الثوب الجراحي، وغطاء الرأس، وكمامة الوجه، يمكن أن يتناثر رذاذ الجسيمات الفيروسية، وهنا يأتي الخطر الأكبر الذي يتعرض له العاملون في مجال الرعاية الصحية.
وبعد "الإجلاء"، نجتمع مع الفريق المساعد، ونناقش التدابير التي يجب أن نتخذها للمرضى الذين تتحسن أحوالهم، والذين سيتمكنون من العودة إلى منازلهم أو إذا ما كان يجب نقلهم إلى مكان آخر.
12:15 ظهرًا
في أغلب الأيام يتبرع بعض المانحون وأسر المرضى بوجبات غداء لأفراد الوحدة بالكامل. باعتبار أنني العضو الأصغر في الفريق، فقد تم تعيينني للاهتمام بهذا الأمر. في المرة الأولى التي ذهبت فيها لاستلام الطعام، وجدت 3 صناديق كبيرة مليئة بالطعام، حينها اضطررت إلى استخدام كرسي متحرك لنقل الصناديق إلى الطابق العلوي.
إذا كان هناك شيء جيد يرجع لهذا الوباء، فإنه عمل الخير. لا يملك أغلب الأطباء والممرضات الوقت الكافي لإعداد الوجبات. لذا، فإن تناول وجبة غداء ساخنة بعد صباح مشحون بالمشاعر المختلطة، يشبه الجلوس وتناول وجبة مطهية في المنزل مع أحبائكم.
1:00 ظهرًا
عدنا إلى قاعة المؤتمرات؛ الآن حان الوقت لجولات الأشعة، نقوم بعمل اجتماعاتنا عن بعد؛ نتناقش فيها مع المتخصصين حول كيفية تصوير الأشعة للمرضى ونتلقى العديد من المدخلات من مقدمي الخدمات الأخرى أيضًا. هذا يسمح بالمزيد من التعاون بين التخصصات المختلفة مثل الأمراض المعدية وأمراض الرئة والرعاية التلطيفية.
1:30 ظهرًا
يبدأ البعض منا بإجراء مكالمات هاتفية لعائلات المرضى، وإعلامهم بآخر المستجدات حول حالة أحبائهم الصحية، ومناقشة خطط العلاج، أو خطط الرعاية حتى في مرحلة الاحتضار لكل مريض. اليوم، قائمتي طويلة، أكثر من أي وقت مضى خلال وقت برنامج إقامتي.
بالنسبة لي، هي جلسة متعبة ومرهقة ذهنيًا، بينما أقرأ جدول جهات الاتصال، أشعر بألم خفيف في صدري، يزداد مع كل مكالمة جديدة لإحدى الأسر، محادثتي معهم عبارة عن سلاح ذو حدين، أريد أن أخبرهم بالحقائق، وأن أنقل لهم صورة واقعية لما يحدث، بينما في الوقت نفسه أمدهم بالأمل. لأنه في نهاية المطاف، الأمل هو كلّ ما علينا التمسك به خلال هذه الأوقات.
3:30 عصرًا
تلقينا خبرًا، هناك مصابان في وحدتنا ليسا بصحة جيدة، ولا بد لي من الدخول إلى "المنطقة الحارة" لتقييم حالتهم. ارتديتُ مجموعة أدوات الوقاية الشخصية مرة أخرى، لكن هذه المرة استخدمت السلالم، أشعر بأنني لست معقمة كفاية، ولا أريد أن أؤذي شخص غيري باستخدام المصعد.
في اللحظة التي عدت فيها إلى "المنطقة الخطرة"، أدركتُ أن الأبطال الحقيقيين لهذا الوباء ليسوا الأطباء، بل هم مجموعة الممرضات والمعالجين المهنيين والمعالجين الفيزيائيين والأخصائيين الاجتماعيين وموظفي التنظيف ومساعدي التمريض ومنسقي الوحدات الذين يديرون الوحدات دون توقف أثناء نوباتهم في المنطقة الحارة لمدة 8-12 ساعة في اليوم، كل يوم وليلة.
4:45 عصرًا
استقبلنا عددًا جديدًا من الحالات، ذهبتُ لأتفقدهم. في الحقيقة التحدي الذي نواجهه مع "كوفيد-19" هو أننا ما زلنا نجهله، فالمبادئ التوجيهية تتغير باستمرار، ما كنا نطبقه بشكل روتيني قبل 3 أسابيع لم يعد المعيار المناسب للرعاية. على الرغم من أننا نتعلم الكثير، إلا أن الأعراض والمضاعفات الناشئة غير متوقعة.
عندما اجتاح هذا الوباء إيطاليا وإسبانيا، تم إعادة توزيع جميع المتخصصين، بما في ذلك أطباء الجلد. وجدت إحدى الدراسات القائمة على الملاحظة أن 1 من كل 5 مرضى تم تأكيد إصابتهم بفيروس "كوفيد-19" كان لديهم تقرحات جلدية بين الطفح الجلدي، وخلايا الآفات الجلدية الوعائية التي تشبه قرصات النحل أو "آثار-كوفيد" كما نطلق عليها الآن.
لذا، كطبيبة أمراض جلدية، كنت أقوم بفحص جلد المرضى الجدد، وهذا ما تدربت على فعله في السنوات القليلة الماضية. لكن الآن أقوم أيضًا بتقييم تنفسهم وإجراء اختبار بدني كامل لهم، على الرغم من التعب والمشقة في السنوات التي قضيتها بالتدريب، إلا أنني ممتنه لذلك، فالساعات التي تقضيها في إتقان التقنيات والمهارات أشبه بركوب الدراجة الهوائية لأول مرة، تبدأ بالسقوط والتعثر.
5:30 مساءً
حان وقت مغادرة الفريق، نجتمع مرة أخرى في غرفة الاجتماعات في الطابق العلوي ونناقش الحالات المستجدة للمرضى مع أعضاء الفريق المناوبين ليلًا، أحب هذا الوقت من اليوم لأنه يميل إلى أن يكون أكثر هدوءًا من أوقات الاندفاع أثناء النهار.
أقوم بتحديث قوائم المرضى والبدء في العمل على إصدار أوراق الخروج للمرضى الذين سيغادرون غدًا. هذا العمل يشعرني بالسعادة، لأنه يعني أننا تمكنا من مساعدة أحدهم على التحسن.
7:00 مساءً
غادرتُ المستشفى، بينما أقود سيارتي نحو المنزل، أحاول تصفية ذهني بأفكار أخرى بعيدًا عن الأمور التي أشهدها في المستشفى، أراقب الطبيعة، أمتع نظري باللون الوردي والأرجواني لغروب الشمس، إلى جانب اللون الأخضر للأشجار دائمة الخضرة التي تصطف على طول طريقي إلى المنزل. أفعل هذا حتى أحافظ على صحتي النفسية، وأكون مستعدة لاستقبال يوم جديد غدًا.
8:30 مساءً
أعود للمنزل وأعدُّ لنفسي وجبة العشاء.
إن التحدي الذي يواجهه جميع العاملين في مجال الرعاية الصحية في الوقت الحالي: نحن جميعًا عرضة لخطر الوباء، هذا يجعلنا غير محصنين ضده، نحن لا نرغب بأن يكون هذا هو الحال، فحقيقة أن "كوفيد-19" جعل من الموت أمرًا شائعًا، ليس بالشيء المستحب.
في العمل، ليس لدينا الوقت للتفكير في ما يحدث كل يوم، أو حتى التحدث عنه. إذا قمنا باسترجاع تجاربنا اليومية بعد العمل، فإننا نخاطر بأن نغرق في مشاعرنا، بالتالي سيكون هناك المزيد من ما سنعانيه، لذلك نتجاهل عمدًا عدم تذكر أي تفاصيل.
إن هذا الأمر يتعلق بالتضحيات التي نقوم بها على خط المواجهة في معركة تقع في داخلنا بقدر ما هي في الخارج.