للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
منذ شهر، دُمرت العاصمة بيروت جراء انفجار هائل في مرفأها.
مصدر الصورة: REUTERSعاصرت مؤلفة كتب الأطفال بسمة الخطيب الحائزة على العديد من الجوائز الأدبية، والتي قامت دار نشر جامعة حمد بن خليفة - التابعة للجامعة الشريكة لمؤسسة قطر- بنشر أعمالها، أحداث انفجار بيروت أثناء تواجدها في لبنان. بعد مرور قرابة شهر، تسرد الخطيب تأملاتها حول المأساة التي وقعت، وما أثارته من مشاعر الغضب – والتغيير الذي يجب أن يحدث
كانت إحباطاتنا، نحن اللبنانيين، المتتالية، المتعاظمة، المتشظّية، قد أوصلتنا إلى حدّ توقّع هبوط نيزك فوق رؤوسنا. كنّا نقول هذا ساخرين، لعلّنا إذ نثبت لأنفسنا أنّنا قادرين على السخرية يعطينا رمقًا نفتقده لنتابع هذه الحياة. النيزك سخر منّا. مرّ بالأرض، ولكنه لم يضربها. ما حدث هو خروج النيزك من الأرض، من خاصرة بيروت. انفجرت قنبلة نووية في بيروت. امتصّ البحر معظمها، وامتصّت "صوامع القمح" ثلثها، وتوزّعت مفاعيلها المدّمرة على محيطها البرّي.
الصدمة، البُكم، الذهول، هذا ما سيطر على عقولنا إثر الانفجار واستمرّ إلى اليوم. أظنّ أنّنا سنستغرق أسابيع أخرى قبل الخروج من الصدمة. إنّ صدى ذاك الانفجار لا يزال يتردّد حلقات وحلقات في أرواحنا.
أمّا روائح الجثث والأشلاء المدفونة تحت الركام، وحتّى التي ابتلعها البحر المتوسّط، فتلك أيضًا ستبقى طويلًا في أقفاصنا الصدريّة. سنتذوّقها مع المرارة التي نغصّ بها كلّما رأينا مدينتنا المنكوبة.
بسمة الخطيب
حين انقشع الدخان، فتحنا عيوننا لنرى ما حدث حولنا. بقي الغبار عالقًا في أهدابنا. لكنّنا رأينا قدر بيروت. منذ فجر تاريخها، تلملم جراحها وتقف وتتداوى بالصبر، ولكنّها الآن، بعد أن أثقلنا عليها كثيرًا كثيرًا، أكثر ممّا تحمّلت مدينة أخرى في العالم، اليوم، لم تقوَ بيروت على الوقوف. ارحموها. اتركوها تبكي. يحقّ للمدن أن تبكي، وأن تتأخّر في النهوض. كم مرّة يمكن أن تنهض من تحت الردم! كم مرّة يمكن أن تسخر من قاتليها؟ كم مرّة يمكن أن تضحك في وجه مغتصبيها؟ لقد ضاق بها وهي تحتاج إلى السجود والبكاء.
إن ما حدث لبيروت كثير بشكل مرعب. أكثر مما يحتمل تاريخ مدينة. ما حدث لأهل لبنان أفظع من أن تحتمل حياة واحدة. عادة ما تتوزع حياة كل شخص بين أفراح وأحزان متفرّقة، ولكن أن تغلب الأحزان والمآسي على الحياة الواحدة فهو أمر فوق العادة.
يحقّ للمدن أن تبكي، وأن تتأخّر في النهوض. كم مرّة يمكن أن تنهض من تحت الردم! كم مرّة يمكن أن تسخر من قاتليها؟
قبل عام تقريبًا، عدت إلى لبنان، بعد 15 عامًا أمضيتها في قطر. عدت لأكون قرب أب مصاب بالسرطان وأمّ متعبة. كنت سعيدة في عملي وإقامتي هناك وأطفالي الذين وُلدوا هناك كانوا هانئين، ولكنّنا قرّرنا الرحيل والعودة إليهما (أبي وأمّي) لتكون ابنتهما قربهما مع أحفادهما الذين ولدوا وكبروا بعيدًا عنهما.
كان ضربًا من الجنون أو التهوّر، أن أترك وظيفتي في مؤسّسة قطر، قد يقول كثيرون، ولكن لم أحسب الأمور بالعقل، بل بالعاطفة، قد يكون هذا تهوّرًا، لكن أن تترك والديك في مثل هذه الهوّة المقفرة والمضبّبة والمغبّرة وتبقى تتفرّج عليهما من قمة الجبل حيث الهواء منعش ونقيّ هو العقوق بذاته.
لم يكد والدي يتجاوب مع العلاج حتّى اندلعت الانتفاضة في لبنان. قال لنا: "أحمد الله أنّه أمهلني حتّى أرى هذا اليوم، وأرى اللبنانيّين ينتفضون ضدّ الطبقة السياسية الفاسدة وضدّ العصبيّات الطائفيّة الغريزيّة". وقف لبنان على شفير الانهيار الاقتصادي، ولم ينقذه من ذاك المصير شيء حتّى الساعة. كذلك لم ينقذ العلاج وأحدث الأدوية أبي.
بعد تجاوبه لبضعة شهور، أصيب بانتكاسة، ثمّ تعافى، ثمّ أصيب بانتكاسة أخرى، ثمّ أعلن الأطبّاء عجزهم عن القيام بشيء سوى تخفيف آلامه.
تزامن الأمر مع تفشّي كورونا. دخلنا في العزل المنزلي ودخل الجميع في كآبة مريرة. مازح أبي طبيبه قائلًا: "أنا راضٍ بالمقايضة، خذوا السرطان وأعطوني كورونا".
كانت تجربة مريرة لأطفالي، فرغم كلّ محاولاتي لإخفاء آلامي أحسّوا بها، ووجدوا أنفسهم في مواجهة مع أسئلة الحياة والموت، والحياة ما بعد الموت... إضافة إلى عامهم الدراسيّ الصعب مع توقّف الدراسة بسبب الانتفاضة ثمّ بسبب كورونا، وبسبب الحجر المنزلي القاسي بالتأكيد.
باتت لديهم أمنية وحيدة للتعويض عن معاناتهم، وهي العودة إلى قطر. وعدتهم أن نعود فور تنتهي كورونا، ورحنا نخطّط لزيارتنا القادمة والأماكن التي سنزورها والأصدقاء الذين سنلتقي بهم والأنشطة التي نفتقدها... لم تكن هناك منافسة في قلوبهم بين الدوحة وبيروت سوى في الحبّ. أرادوا أن يعيشوا في المدينتين معًا.
ثمّ، فُجّرت بيروت.
كلمتان هزيلتان: "فُجّرت بيروت"، لكنّهما مثقلتان بكلّ معاني المآسي التي عرفتها البشريّة.
سواء كان السبب فعل فاعل أو حادثًا عرضيًا، الفاعل الحقيقي هو الفساد. الفساد نفسه الذي أوصل لبنان إلى الانهيار الاقتصادي والفقر المدقع واليأس
الظلم، القهر، الفساد، القتل، التدمير، اقتلاع الأشجار، بعثرة الغيوم، تكسير الزجاج، تحطيم الجدران والسقوف، تشظية الأحلام، هتك الحرمات، إطفاء الأنوار، حفر القبور، ذبح الإرث الثقافي، وتشويه الوجه الحضاري، دهس الأبجدية، نفخ الرماد (حتى لا يولد طائر الفينيق مجددًا) وسم الوجوه بالندوب، نقش الغُرَز حول الجماجم. الغُرَز، الكثير الكثير منها، بين كلّ رصيف ورصيف وكلّ عمارة وبيت وكلّ شرفة ونافذة.
لم أكن في بيتي في بيروت. ما حدث للبيت كان أهون الأمور عليّ. رحمة الله قدّرت لنا أن نكون بعيدين عن البيت، وعن بيروت تلك اللحظة.
بدأ الجميع يتراسلون. من نجا كان يقول إنّه بخير. عبر فيسبوك يسجّل نفسه سالمًا! حاولت أن أقول مثلهم، ولكنّي عجزت. كيف أكون بخير؟ كيف أكون سالمة وكلّ هذا الحطام في قلبي؟ وكلّ ذاك الزجاج المطحون في حلقي؟ لا تصدّقوا فيسبوك ولا من حاولوا طمأنتكم. لم يكن أحد سالمًا. كيف نكون بخير؟ كيف يكون أيّ مواطن بخير ومدينته مبقورة الأحشاء محطّمة القلب!؟
منذ اليوم التالي للتفجير نزل المتطوّعون إلى بيروت المنكوبة. أحزانهم لا توصف إلا بوصف خراب مدينتهم، غضبهم لا يُقدّر إلا بقدر عزيمتهم
الرواية المتسرّعة تقول التالي: بدأ الأمر حريقًا. ولكنّ الرواية الحقيقية تثبت أنّ الأمر بدأ فسادًا وصلفًا، جعل المسؤولين عن سلامة لبنان وأراضيه ومواطنيه يربّون قنبلة موقوتة ويرعونها عامًا بعد عام. ثمّ، بعد سنوات، وفي لحظة قدرية، اشتعل حريق، فتمّ إرسال فرق الإطفاء والدفاع المدنيّ للسيطرة عليه. كانت المأساة في انتظارهم، وانتظارنا جميعًا. لم يكن ذاك مجرّد حريق يستوجب استدعاء أحد، بل كان يستوجب طلب الإخلاء وإنذار المدينة. كان ذلك لينقذ الكثير من الأرواح.
فقد كان المسؤولون عن المرفأ يعرفون بتخزين مواد متفجّرة خطيرة في مكان الحريق. ليست بالتأكيد 2700 طنّ من نيترات الأمونيوم، لأنّ الخبراء قدّروا أنّ ما انفجر هو حوالي 300 طنّ فقط، لحسن حظّنا ربّما. الأدخنة التي تعالت كانت مختلفة الألوان والكثافة، ما يدلّ على أنّ ما انفجر كان عددًا من المواد وليس مادّة واحدة. من يعرف بهذا أرسل فرقًا من الشجعان الباسلين ليموتوا، بعدما خزّن المواد المتفجرّة، القنبلة شبه النووية الصغيرة، سنوات في خاصرة عاصمتنا.
تفجير قنبلة. هذا هو الأمر.
سواء كان السبب فعل فاعل أو حادثًا عرضيًا، الفاعل الحقيقي هو الفساد. الفساد نفسه الذي أوصل لبنان إلى الانهيار الاقتصادي والفقر المدقع واليأس.
اللبنانيون يتعافون ويعيدون ترتيب حياتهم أعقاب الانفجار، وسط غضب متصاعد حول أسباب وكيفية وقوع المأساة. مصدر الصورة: REUTERS
بينما تتركّز جهود جبّارة من أهل لبنان ومؤسّساته المدنيّة والدول الصديقة لمساعدة بيروت وإصلاح ما دُمّر، لا يجب أن نغفل عن المساعدة الأصعب والأحقّ التي يحتاجها لبنان، وهي إصلاح نظامه السياسي ومحاسبة فاسديه، وإعادة أمواله المنهوبة وكرامته المهدورة.
بينما أكتب هذه الكلمات، يتمّ انتشال المزيد من الجثث، والعثور على الأشلاء، وهناك حوالي 50 مفقودًا. القتلى من أطفال وكبار تجاوزوا 180. الأضرار بمليارات الدولارات. آلاف العائلات فقدت بيوتها، آلاف أخرى فقدت مصدر رزقها. منذ اليوم التالي للتفجير نزل المتطوّعون إلى بيروت المنكوبة. أحزانهم لا توصف إلا بوصف خراب مدينتهم، غضبهم لا يُقدّر إلا بقدر عزيمتهم.
تلاحقني صور مكاتب أخوتي وأحبّتي وبيوتهم التي تضرّرت. أؤكّد لنفسي للمرة الألف أنّهم لم يكونوا هناك وقت التفجير. لا يهمّني شيء عن التحقيقات. يهمّني أن يكون هذا التفجير ولا تصدق التوقّعات بتفجيرات عديدة. هل على كل هيروشيما أن تُلحق بناكازاكي؟