للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
غنوة يحيى، أخصائية تطوير المحتوى في دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، اتخذت جميع الاحتياطات لحماية نفسها وعائلتها من الإصابة بوباء" كوفيد-19، ومع ذلك أصيبوا جميعًا بالعدوى. هنا تروي رحلتها مع الفيروس.
بدأت رحلتي مع "كوفيد-19" في الأول من يوليو الماضي، وقد صادف ذلك، اليوم الأول الذي بدأت فيه المرحلة الثانية من تخفيف قيود الإغلاق المفروضة بسبب الجائحة في دولة قطر.
استيقظت، كما كل يوم، مارست التمارين لمدة ساعة قبل أن أبدأ "يومي في المكتب" من المنزل كالمعتاد.
عندما جلست لتناول وجبة الفطور، أحسست بما يشبه دغدغة غامضة في حلقي، تجاهلت ذلك وواصلت يومي.
خلال الغداء، شعرت بالضيق، فحصت حرارتي بشكل سرّي، فوجدتها مرتفعة.
لقد أرجعت القلق الذي اجتاحني إلى خوفي الشديد مما ستكون عليه الحياة في المرحلة الثانية للوباء العالمي التي بدأت للتو. ذلك القلق الذي لم يفارقني لحظة واحدة خلال الأشهر القليلة الماضية والذي لن يزول عمّا قريب، فقد كنت تائهة بين الرغبة في الاستمتاع بالحياة في الخارج، والرغبة في الحفاظ على سلامة أسرتي.
غنوة يحيى
"كم مرة خرجتِ من المنزل خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ثلاث مرات، أربع مرات؟" سألني زوجي عندما أخبرته عن درجة حرارتي.
وتابع:" لا شك أن الأمر كله مجرد أوهام، أنت متوترة من إعادة افتتاح الأماكن المغلقة، لننتظر يومًا إضافيًا ونرى ما الذي سيحدث".
"قد يبدو ذلك منطقيًا" قلت لنفسي. بعد قليل، شاركتُ مخاوفي من عودة الحياة الطبيعية مع أحد زملائي، فقال لي مازحًا: "تخيلي أن تصابي بالوباء الآن! سيكون ذلك أمرًا غريبًا".
لقد كان محقًا، فالأمر برمته بدا منافيًا للمنطق.
في الأمسية التالية، بدأ الكابوس الحقيقي.
ارتفعت درجة حرارتي، بدأ كل مفصل في جسدي ينبض بالألم مع أقل حركة، وكأن جسمي يتعرض لضرب مبرح، قضيت بقية اليوم مغطاة بطبقات من البطانيات، أتعرق بسبب أكوام القماش المتراكمة، ومع كل نفس أتنفسه كنت أرتجف. شعرت بأن حلقي كان خشنًا وجافًا، كما لو أن الماء الذي شربته لإشباع عطشي الشديد كان رمالًا أدّت إلى خدش حلقي.
مع شعوري بوجود ثقلٍ غير مرئي يضغط على منتصف عظمة القص في صدري، كان من المستحيل أن آخذ نفسًا عميقًا. رأسي كان مسحوقًا، وعيني تؤلمني، ولم يكن نومي مستقرًا، فقد كان مليئًا بالذعر والقلق والكوابيس.
في مرحلة ما، عندما تمكنت من النهوض من السرير بفضل مسكنات الألم، ذهبت إلى المستشفى لإجراء اختبار "كوفيد-19"، وسرعان ما تحول تطبيق احتراز على هاتفي إلى اللون الرمادي، ولم يكن أمامي سوى التعامل مع الأعراض، والأمل بما هو أفضل.
المشهد خارج نافذة مرفق الحجر الصحي، حيث أمضت غنوة وابنها وقتهما في اختلاق قصص عن طير الحمام الذي كان يزور نافذتهما يوميًا
وقف زوجي، الذي كان يرتدي معدات الوقاية الشخصية الخاصة به، خارج الغرفة التي كنت أعزل نفسي فيها، متحدثًا إلى موظف المستشفى الذي أكد للتو اصابتي بالفيروس، لاحظت الخوف في عينيه الواسعتين وهما تنظران إليّ بحنوّ، كأنه كان على وشك أن يكسر الحاجز غير المرئي بيننا ويندفع إليّ، لكن ذلك الحاجز أوقفه.
العزل والشعور بالذنب
لأكون صادقة، في تلك اللحظات السريالية الأولى، شعرتُ بشيءٍ من الراحة، فأنا الآن أواجه ذلك الوحش غير المرئي الذي كنت أختبئ منه على مدار ثلاثة أشهر، لحماية نفس وأسرتي من هذا الفيروس الذي اجتاح العالم، والذي دفعنا للانعزال في البيت والالتزام بشكل صارم بجميع القواعد والارشادات، كي نضمن السلامة، ورغم ذلك، فقد تحققت أكبر مخاوفي!
ولكن، مثلما تتراجع كل موجة بعد أن تتحطم على الشاطئ، سرعان ما انحسر شعوري بالارتياح، واستعدت مشاعر الذنب والحيرة.
قبل أسبوعين، ذهبت إلى أحد المتاجر هل كنت حذرة بما فيه الكفاية؟
مررت بالمكتب في مكان عملي الأسبوع الماضي، فهل لمست أي شيء؟
أطفالي، هل انتقلت إليهم العدوى؟
هل قمت بتعقيم الخضروات بما يكفي؟ هل لمست زر المصعد؟ هل فعلت ما يكفي لمنع ذلك؟ وغيرها من الأسئلة المحّيرة.
في غضون يومين، وجدت نفس في غرفة للحجر الصحي، وفي اليوم الثالث، اكتشفت أن ابني البالغ من العمر تسع سنوات كان أيضًاً مصابًا بالفيروس، وها هو قد انضم إليّ.
إلى جانب الأعراض الجسدية، كان الذنب العاطفي يسبب لي ما يشبه الجنون.
الضعف والإرهاق، والغثيان الدائم والحمّى والقشعريرة، وغيرها من الأعراض التي شعرت بها، بينما أراقب إبني وكأنه شعلة من الطاقة التي ينعكس نورها على كل جدران الغرفة التي نتشاركها معنا.
الردهة المهجورة لمرفق الحجر الصحي، غنوة وابنها لم يتواصلا وجهًا لوجه مع أي فرد لمدة أسبوعين.
غالبًا ما كنت أغلق دورة المياه على نفسي وأبكي، لقد حُرم إبني من الذهاب إلى المدرسة ومن رؤية زملائه وأصدقائه، ولكن الآن - بسبب والدته - يتم حبسه في هذه الغرفة لمدة أسبوعين أيضًا، كان كلُ همّي أن أجعل الأمور أفضل بالنسبة له.
عندما تكون وحيدًا مع أفكارك، يمر الوقت ببطء. لقد شعرت بالامتنان لقضاء الكثير من الوقت مع ابني، لكن ذلك لم يكن كافيًا لتهدئة تيار جارف من الأفكار في داخل رأسي.
عندما كان يتصل بي الآخرون للاطمئنان علي، كانوا، وعن غير قصد، يطرحون عليّ أسئلة جارحة، من قبيل:" كيف أصبت بالفيروس فأنت حذرة جدًا، ما الخطأ الذي ارتكبته؟"
هذا بالضبط ما كنت أحاول اكتشافه خلال الأسبوع الماضي، شكرًا لكم لتذكيري بالأمر.
لتهدئة أفكاري، كنت أجيبهم بأن الأمور على ما يرام، وبأنها مجرد نوبة قوية من الأنفلونزا التي ستمرّ، كما لو أن تحسن حالتي سيقلل من الأحكام الموجّهة ضدي. وخلال المكالمة، كنت أسحب الهاتف بعيدًا باستمرار كي أتمكن من إخفاء أنفاسي الشاقة.
لا أبالغ حين أقول إنني لم أشعر بمثل هذا الخوف في حياتي قط، هذه الليالي هي الأسوأ دون شك، لا يمكن وصف مشاعر الخوف الذي تشعر به حين تكافح من أجل التنفس، مستيقظًا ولكنك خائف من النوم. تتدفق مليون فكرة إلى رأسك، حين يكون كل ما تحتاج إليه هو" التنفس".
لا أبالغ حين أقول إنني لم أشعر في حياتي قط بمثل هذا الخوف الذي ينتابني هذه الليالي، أن تكافح من أجل التنفس، وأن يغلبك النعاس لكنك تخاف من النوم، قد تخطر، نتيجة ذلك، مليون فكرة ببالك.
كانت الطقوس اليومية مثل شاي في فترة ما بعد الظهر تمنح غنوة أملًا بما هو قادم.
كي أتمكن من النوم، لجأت إلى تقنية تنفس الصندوق.
بعض الليالي، كنت أطبق هذه التقنية بنجاح وأغفو، لكن ما هي إلا ساعات قليلة حتى أستيقظ بسبب نوبة سعال شديدة، لأطبق التقنية من جديد.
ما التالي؟
بعد أسبوع من عزلتي، استيقظت على رسالة عاجلة من زوجي، تفيد بأن ابني البالغ من العمر سبع سنوات قد أصيب بحمى بين عشية وضحاها. لقد صدمني ذلك، فقد خضعا إلى الفحص مؤخرًا وتبين أنهما لم يصابا بالفيروس، والآن، طلب منهما الخضوع للفحص مجددًا. اختفت حمّى ابني من تلقاء نفسها، في غضون ساعات قليلة ولم يبد زوجي أي أعراض على الإطلاق.
لقد أصيبا بالعدوى.
ولأنه يعرفني جيدًا، فقد وضع زوجي حدًا لشعوري بالذنب قبل أن أخرج عن السيطرة مجددًا.
حين بكيت على الهاتف واعتذرت له، قال لي:" غنوة، هذا يكفي، إنها إرادة الله، سوف نتجاوز كلّ ما نمر به اليوم، لنحمد الله لأننا في أمان، ولأننا نحصل على أفضل رعاية صحية ممكنة".
لا يمكن لعائلتي بأكملها التعبير عن مدى امتناننا للرعاية والتوجيه والتفهم الذي تلقيناه من العديد من الأفراد، بدءًا من الطاقم الطبي الذي قدم لنا الرعاية، والطاقم المساعد في مرافق الحجر الصحي، إلى زملائنا وعائلتنا وأصدقائنا الذين قاموا بطرقهم الخاصة بالتخفيف عنّا خلال هذا الوقت العصيب. نحن ممتنون لهم جميعهم إلى الأبد.
بعد انقضاء أسبوعيّ الحجر، شعرت بتحسن كبير، لم أعد أواجه صعوبة كبيرة في التنفس، واستعدت شيئًا من طاقتي المفقودة. سُمح لي بالعودة إلى منزلي مع ابني وتلقيت تعليمات بالحجر الصحي لمدة أسبوعين آخرين. لكن ماذا بعد ذلك؟
لا يزال هناك الكثير لا نعرفه عن هذا المرض. لقد كان موجودًا منذ شهور فقط وليس سنوات. لا نعلم حقًا عن أي من آثاره الصحية طويلة المدى، وكيف يمكن أن تظهر لاحقًا؟
ما نجهله يفوق بكثير ما نعرفه، ومع ذلك، نراقب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي كيف يعود الناس إلى" الوضع الطبيعي" ويعيشون الحياة بتهوّر، دون حذر أو مراعاة، كما لو أن الأشهر الستة الماضية قد ذهبت هباءً، وكأن الناس عانوا وفقدوا حياتهم من أجل لا شيء.
غنوة في معرض الدوحة الدولي للكتاب في يناير 2020.
في الليلة الأخيرة من الحجر الصحي، بينما كنت أضع حقيبتي عند الباب استعدادًا للعودة إلى المنزل في اليوم التالي، لفت انتباهي وميض الأضواء الحمراء والزرقاء القادم من النافذة، كانت تلك سيارة إسعاف تنقل مصابًا آخر إلى مرفق الحجر الصحي، ها انا أستعد للمغادرة، بينما يبدأ مصاب جديد رحلته هنا.
لقد أصبت بالفيروس رغم أنني التزمت بكل القواعد، فهل سأستمر بالالتزام بها؟
بالتأكيد، فشعور أي فرد بأنه نقل العدوى إلى الآخرين عن عمد، لأنه لم يكن حذرًا، هو شعور لا يمكن تحمّله، لقد كنت حذرة جدًا، ورغم ذلك لم يفارقني الشعور بالذنب، فكيف لو كانت العدوى ناجمة عن الإهمال وعدم التقيّد بالإرشادات؟
لقد بدأنا هذه الرحلة معًا متحدين تحت شعارات مثل #سلامتك هي سلامتي، # ابق بالبيت وكن سالمًا.
وبينما أشجع الجميع على المضي قدمًا وعيش حياة مليئة بالبهجة والتواصل، لا بد أن نكون حذرين وأن نستمر في القيام بدورنا للتخفيف من خطر انتشار الفيروس.
لو انتقلت العدوى إليك، فأنت لا تعلم كيف ستؤثر عليك وكيف ستؤثر على الآخرين، دعونا نتذكر أن هذه الرحلة لم تنته بعد، وبالنسبة للبعض منا، قد تكون قد بدأت للتو.