للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
عبير البنا، أم ومعلمة في أكاديمية العوسج، تتحدث عن تقاطع دورها كأم مع دورها كمعلمة في رحلة ملهمة.
كنتُ في زيارة إلى والدي المريض بالمستشفى، كان عمري حينها 9 سنوات فقط، عندما التقيتُ بالصدفة بفتى لا تشبه ملامحه ملامح الأطفال الآخرين، وبالرغم من شعوري بالقلق لدى رؤيته يتقدم نحوي، إلا أنه بدا طيبًا وبريئًا، وكانت تلك المرة الأولى التي واجهتُ فيها "متلازمة داون".
تلك الصدفة كانت أول ما خطر ببالي بعد 14 عامًا، حين كنتُ في المستشفى وفتحتُ الملف الطبي للتوأم الذي أنجبته للتو، لأقرأ فيه "ملامح وجهيهما تشير إلى احتمال إصابتهما بمتلازمة داون" وقتها سَرَت رجفة في عروقي، ورحت أتفقد طفليّ وأنا أتمتم:
"هما جميلان جدًا، عيونهما لوزية تشبه عيني عمتهما، كما يوجد لديهما خطان في أكفّ أيديهما وليس خطًا واحدًا، لا يعقل ألا يكونا طبيعيان!" 21 يومًا كانت المدة اللازمة قبل أن تُحسم نتيجة الفحوصات، فانتظرت.
وفقًا لوالدتهما، التوأم أنس وفارس هما "هديتان من عند الله"
بينما كان زوجي يصلي لله شكرًا، ويوزع الحلوى على طاقم المستشفى والأقارب والجيران، احتفالًا بولادة طفليه "أنس وفارس"، كنتُ أحملهما كل ليلة بعد أن ينام الجميع، بين يديّ وأبكي. لم أبكِ رفضًا لهما ولا اعتراضًا على مشيئة الله، لكنني كنت خائفة من عدم القدرة على الاعتناء بهما، لقد شعرت بثقل المسؤولية التي ألقاها الله على عاتقي، ولم يكن يدري أحد بي، حيث كتمت الشكوك حول حالة التوأم عن الجميع، حتى عن والدهما، لأنني لم أشأ أن أفسد فرحته. إلى أن حان موعد استلام نتائج الفحوصات.
"متلازمة الحب"
"كما تعلمين، أن الأطفال الذين يعانون من متلازمة داون، لديهم مشاكل صحية وتحديات عدة". هكذا باشر الطبيب حديثه إليّ، فسألته وأنا في حالة صدمة:" عمّن تتحدث؟ من يعاني من متلازمة داون؟"
لم يكن الطبيب على علم أنني لم أطلع بعد على نتائج الفحوصات، وقد دخلت في نوبة بكاء شديد، بينما تلقى زوجي الخبر بهدوء وبرضا، رغم شعوره بالخوف والقلق، فهو مثلي، لا يعرف الكثير عن هذه المتلازمة، لكن ما كنا نعرفه أننا سنمضي قدمًا مع توأمنا الجديد، ومعًا سنصنع الحب الأكيد وسط أسرتنا التي كبرت، ألا تعرف متلازمة داون أيضًا بأنها" متلازمة الحب"؟
في السنوات الأولى التي تلت ولادة التوأم، كانت حياتنا عبارة عن مواعيد طبية، وفحوصات دورية، ومحاولات دائمة لفهم كل ما يتعلق بمتلازمة داون
في السنوات الأولى التي تلت ولادة التوأم، كانت حياتنا عبارة عن مواعيد طبية، وفحوصات دورية، ومحاولات دائمة لفهم كل ما يتعلق بمتلازمة داون، وكيفية التعامل مع الطفلين.
تلقينا الدعم من مركز تطوير الطفل التابع لمستشفى الرميلة، في مؤسسة حمد الطبية، من خلال برنامج تأهيلي للتدخل المبكر. كما زرعنا مشاعر التقبّل تجاه التوأم، وحرصنا، على توفير الأنشطة الهادفة التي تعزز مهاراتهما.
كنّا كلّما حققنا تقدمًا، امتلأت نفوسنا بالرضا وتعلقنا بهما أكثر، لنكتشف أن "أنس وفارس" هما نعمتان من الله، ندرك من خلالهما أن الحياة ما هي إلا محاولة للعطاء اللامحدود.
مصدر إلهامي الأول
كان عمري 17 عامًا فقط عندما تزوجت، كنت قد أنهيت دراستي الثانوية وتفرغت لبناء أسرة، تتألف اليوم من خمسة أبناء، كبيرهم طبيب أسنان، وصغيرهم يصغر أنس وفارس ب 7 سنوات.
مع ولادة التوأم، انتسبت إلى الجامعة وحصلت على شهادة البكالوريوس في " التربية الخاصة"، وبعدها، التحق "أنس وفارس" بمركز الشفلح لذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت تلك فترة مهمة وصعبة في آن، فقد ابتعد التوأم عني للمرة الأولى منذ ولادتهما. أذكر جيدًا كيف كان أنس يجلس على كرسيّ قرب باب البيت لساعتين وأكثر، منتظرًا عودتي. وكيف كان فارس يتجول في أركان البيت بتوتر شديد، لا يزول إلا برجوعي.
لقد كان قرارًا صعبًا، لكنه حكيمًا، فقد تعلما في مركز الشفلح الكثير، ولا أنسى فرحتي حين دونّا اسميهما على الورق للمرة الأولى، لتبدأ مرحلة التقدم والتعلم الأكاديمي والدمج الاجتماعي.
مشاركة التجارب
في العام نفسه، انضممت إلى أكاديمية العوسج، عضو التعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر، كمعلمة وكأم، لأختبر على مدار أكثر من 10 سنوات، تجربة أكاديمية وإنسانية لا مثيل لها.
هل جميعنا متشابهون، ألا توجد لكل بنا بصمة خاصة، أليس الاختلاف هو المحرض الأساسي لنا كي نبدع ونتميز؟
تعدّ أكاديمية العوسج أول مدرسة تجريبية فريدة من نوعها تستهدف الطلاب الذين يواجهون تحديات في التعلم، وكوني أم لتوأم يعاني من متلازمة داون، وجدتها المكان الأنسب لي لاكتساب المعرفة التي تمكنني من دعم ولديّ، وكي أنقل تجربتي إلى طلابي.
تتمثل رؤية أكاديمية العوسج، في إطلاق قدرات التعلم لكل طالب، وهو ما أؤمن أنه الوسيلة الأمثل في التعليم، فثقة المعلم بقدرات الطالب، والتمتع بروح إيجابية ومعنويات عالية، ينعكس على نجاح العملية التعليمية بأكملها.
جمال الاختلاف
ما بين المنزل والأكاديمية، ترافقني الطاقة الإيجابية دائمًا، فأنا أجلب السعادة التي تصنعها ضحكات التوأم من منزلي، وأوزعها كابتسامات ملونة على طلابي. وفي المقابل، أحمل البهجة والحماس من طلابي، وأنثرها في منزلي، فالتأثير الإيجابي بين هذين الجانبين في حياتي متبادل.
لا يجيد الأشخاص الذين يعانون من متلازمة داون- ومن بينهم ولدي- النطق بشكل سليم مثلنا، لكنهم، قادرون على قول ألف كلمة بنظرة واحدة، تعبر ملامحهم عن مشاعرهم، وهي تظهر طيبة مدهشة.
كما يبرعون في إضحاكنا دائمًا، حيث يتسابق ولدي من يقدم الضيافة للضيوف؟ ومن يضع القمصان في غسالة الملابس أولًا، وحين يعقدان حاجبيهما في وجه أخيهما لأنه لم يرتب سريره.
هم أشخاص يحبون الحياة، يقبلون على الناس، ولا يتوانون عن الابتسام والتلويج لهم بأيديهم، أجل، هما مختلفان، لكن، من قال إن الاختلاف ينتقص من جمال صاحبه؟ وهل نحن جميعنا متشابهون، ألا توجد لكل بنا بصمة إصبع خاصة، أليس الاختلاف المحرض الأساسي لنا كي نبدع ونتميز؟
بالانضمام إلى مركز الشفلح لذوي الاحتياجات الخاصة، بدأ أنس وفارس مرحلة التعلم والدمج الاجتماعي.
أمضت عبير البنا 10 سنوات كمعلمة في أكاديمية العوسج.
تقول البنا أنها تكتسب الإيجابية والسعادة من وقتها في المنزل والمدرسة.
نشر الفرح
لقد ألهمني توأمي، كي أصبح شخصًا مؤثرًا في مجتمعي، وجعلا مني شخصًا أفضل. يوجد خلف كل تغيير إيجابي في حياتنا أفرادٌ ملهمون، يعلموننا أن وجودنا في الحياة ليس محض صدفة، وأن كل طيرٍ يحط على شرفة منزلنا، يصنع لنا موعدًا مع الأمل، وأن كل سنبلة قمح تنمو في حقل قريب، ترسم أمامنا الخير والعطاء.
لقد علّمني أنس وفارس، أن جمال الحياة يكمن في أبسط كائناتها، ومنهم الأطفال، الذين لم تخطف ضحكاتهم أي مشاعر سلبية. فهما سيظلان طفلاي الجميلان إلى الأبد، فمتلازمة داون، تضفي على شخصيتهما طفولة دائمة، تزرع في قلبيهما محبة تجاه الجميع، ليزرعا الابتسامات في قلوبنا.