للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
"قصصي كأطفال.. عليهم أن يتركوا كنفهم ليغدوا كتبًا"
طوال سنوات دراستي، كنت دائمًا أكتب الأفكار والقصص القصيرة باللغة العربية، وقد حظيت بدعم كبير من والديّ والمعلمين، الذين شجعوني على قراءة المؤلفات من خلال نظام الإذاعة المدرسية، ما عزّز ثقتي في قدرتي على الكتابة في ذلك الوقت الدقيق من مسار التطور.
اليوم، أنظر إلى الوراء إلى تلك السنوات المبكرة من حياتي، وأحاول أن أتصور مدى أهمية الدعم ونوعيته الذي توفر لي: ابنة من أب فلسطيني وأم سورية نشأت في المدارس العامة بالكويت.
دخلتُ مجال الهندسة، تحوّل تركيزي إلى الكتابة التقنية باللغة الإنجليزية، ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال حرب الخليج، حيث حصلت على درجة الماجستير في الهندسة، وأنشأت أُسرة، وتطوّعتُ للدفاع عن ضحايا الاعتداء المنزلي. ولكن، طوال الوقت، ظلت الكتابة الإبداعية تمثل أداة الهروب الذاتي، ووسيلتي للتخلص من التوتر، وإعادة التركيز على نفسي، فواصلتُ كتابة تأملاتي.
عندما بدأت الاضطرابات في سوريا عام 2011، وتحوّلت إلى أعمال عنف، شعرتُ بالعجز أثناء مشاهدتي لأحداث فظيعة تؤثر على أُسرتي، سواء من جانب والدتي كمواطنة لبلدها الذي تُحبه، ومن جانب والدي كلاجئ فلسطيني في سوريا. لذلك، بدأت في كتابة قصة بدافع الإحباط، ولكنني استخدمت الإنجليزية لأول مرة.
بسبب التحفيز المستمر من زوجي وأحد أصدقائي، انضممتُ إلى نقابة للمؤلفين وحصلتُ على تشجيع كبير ونقد بنّاء من كتّاب محترفين. لم يكن لدي أي نية للنشر، ولم أملك أدنى فكرة عن كيفية القيام بذلك، ولكنهم اقترحوا عليّ أن أحضر مؤتمرًا لأحد الكتّاب، وهناك التقيت بشركة نشر مقرها مدينة نيويورك، قدمت لي عرضًا
مدته خمس سنوات، لروايتي الأولى" أطياف دمشقية"، والتي نشرت عام 2014 ووصلت إلى نهائيات مسابقة جائزة كولورادو للتميّز لعام 2015 عن إحدى الفئات.
في هذه الأثناء، قدم والديّ لزيارتي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانا قد انتقلا إلى الأردن بعد الحرب في سوريا.
لأول مرة، لاحظتُ شيئًا مختلفًا في عينيّ والدي، وكأن بريقهما الذي كان دائمًا موجودًا لم يعد هناك. وأدركتُ، أنه في مواجهة انهيار خيبات الأمل والانتكاسات السياسية في فلسطين، فقد والدي، الأستاذ ومعلم الأجيال، الأمل في رؤية وطنه الحبيب مجددًا، وقد آلمني كثيرًا أن أكتشف ذلك، وأنا التي كنت أكبر وأنسجُ قصصًا وإيّاه حول تسلق أشجار التين والبرتقال، وأستمتع بجمال أرض ليس بإمكاني سوى تخيّلها.
بعدها، بدأتُ الكتابة عن عالم يمكن لوالدي أن يتواصل معه لإخراجه من حالته، وقد اخترعت شخصيات من الممكن أن يكون على صلة بها، وكتبت عمّا حدث لجيله قبل نفيهم من فلسطين وبعدها. كنتُ أكتب في الليل وأقرأ له ما كتبت في الصباح.
أثناء شرب القهوة، تحدثنا، وتجادلنا، وناقشنا الأحداث كما اختبرها هو وأصدقائه، وليس بالضرورة كما سجلتها كتب التاريخ. تلك الأيام هي بعض من أكثر لحظات حياتي ثراءً، وهكذا ولدت روايتي الثانية" اللوز المرّ".
أما روايتي الثالثة Lost in thyme""، والتي كتبتها وأنا أم لطفلين رائعين يعيشان معي في الولايات المتحدة الأمريكية، وتجسد التحديات أمام جيلهم للتمسك بالجذور مع الاندماج في بوتقة الانصهار الثقافي للحياة الأميركية.
أسرة في مجال النشر
كان قارئ روايتي الأولى يحضر حدثًا خاصًا بكاتب آخر، حين ذكر كتابي أمام ممثل عن الناشر. تلقيتُ رسالة عبر البريد الالكتروني من ممثل عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، عضو مؤسسة قطر، تدعوني إلى التقديم في حال كنت أكتب قصة حول الشرق الأوسط، وكنتُ قد انتهيت للتو من كتابة " اللوز المر"، لذا انتهزتُ الفرصة، وأرفقتُ المخطوطة بجوابي، وقد أسعدني كثيرًا أن أتلقى عقدًا لنشرها.
قبل أيام من التوقيع، توفّي والدي، ولم يكن يعلم أبدًا أن روايتي قد نشرت، على الرغم من ثقتي بأنه كان يمكن أن يكون سعيدًا وفخورًا أيضًا. طبعت دار جامعة حمد بن خليفة للنشر" اللوز المر" عام 2016، وقد فازت بجائزة أفضل قصة خيالية متعددة الثقافات ضمن جوائز أفضل الكتب الدولية لعام 2017 في الولايات المتحدة الأمريكية.
كان الاهتمام والدعم الذي تلقيته من فريق دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، عضو مؤسسة قطر، مذهلًا، فقد شعرتُ، وما زلت أشعر كما لو أنهم تبنوني ضمن عائلة المحترفين لديهم. فالحماس الذي أبدوه نحو كتابي كان كبيرًا. لقد أشركوني في كل تفاصيل إنتاج الكتاب، من الغلاف إلى الغلاف، وأطلعوني على جوانب عديدة من النشر كانت مجهولة تمامًا بالنسبة لي ككاتبة. نشر النسخة العربية لـ "اللوزُ المرّ" فتح الأبواب أمامي للوصول إلى القرّاء العرب، وتسهيل الترجمة النرويجية للرواية يأخذني عبر حدود أبعد.
أميل إلى التفكير في قصصي كأطفال عليهم أن يتركوا كنفهم ليغدوا كتبًا، الشعور بأنهم بأمان في أيدي فريق دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، شجعني على التوقيع مجددًا للجزء الأول من رواية lost in thyme، وسعدت لفوزها بجائزة جائزة الكتاب الدولي الأمريكي في فئة أدب الخيال، وبفضل الدعم المستمر من الدار، فأنا متحمسة لإنهاء الجزء الثاني من الرواية تحت عنوان" Found in thyme”. لم أتخيل أبدًا أنه يمكنني أن أكتب رواية كاملة بالإنجليزية، ولم أوليها اهتمام كافي لنشرها، أو أن أكتب رواية أخرى، وأفوز بجوائز عن كلٍ منها. تطورت كتابتي للقصص بشكل تلقائي وكأنني كنت أقوم بذلك منذ طفولتي، لكن التعبير عن نفسي ببلاغة باستخدام لغة لم أكن في السابق مرتاحة معها كليًا، وكان لديّ تجاه ذلك الكثير من المخاوف.
كنت أشك بكلّ كلمة أكتبها وبكلّ جملة أبنيها، وكنتُ أدرك جيدًا أن هناك فارق بين كوني روائية جيدة أو كاتبة جيدة، لكن اتضح أنني قادرة على استخدام اللغة الانجليزية كي أعبّر عن جانبي الإبداعي.
يمنحني فوزي بجوائز عن روايتي" اللوز المر" و" lost in thyme التحفيز التي أحتاجها ككاتبة. ويؤكد لي أن قصصي قد لقيت قبولًا جيدًا من قبل النقاد والقراء على حدّ سواء، فما قيمة راوي القصص من دون قرّاء؟
يساعد الوصول إلى قلوب مختلف القرّاء وعقولهم في بناء الجسور، وآمل أن أقدّم فكرة أوضح حول ثقافة فلسطين وسوريا والشرق الأوسط بشكل عام، وهو هدف حددته منذ بداية هذه الرحلة.
فرصة العُمر
اعتبر نفسي محظوظة لاختياري للمشاركة في برنامج إقامة الكتّاب " Art Omi 2020"، برعاية دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، عضو مؤسسة قطر، بالنسبة لكاتب مثلي، إنها فرصة العمر. يستضيف هذا البرنامج كتّابًا ومترجمين من جميع أنحاء العالم، حيث يوفر لهم من خلال الإقامة السنوية فرصة للإبداع، ويعدّ تعبيرًا عن الأصوات الأدبية العالمية وهو يعكس روح التبادل الثقافي في العالم، التي تقع في صميم مهامه.
يجتمع حوالي 10 كتّاب للإقامة والعمل معًا في محيط ريفي يطل على جبال كاتسكيل في الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال إقامتي، أخطط لإنهاء" Found in thyme" وآمل أن أتواصل مع زملائي الكتاب وأشاركهم تجربتي، وأستفيد من خبراتهم. آمل أن تُساهم مشاركتي في هذه الرحلة بإلهام الكتاب الصاعدين، وأنا ممتنة للأبد لكل من ساعدني خلال رحلتي.
ابتكار شخصيات
أستطيع القول أن الإحباط من القضايا التي تجري عالميًا، كان المحرك الرئيسي لكتاباتي حتى الآن. ولكنه لم يكن مصدري الوحيد للإلهام، فعندما أبدأ في كتابة قصة ما، لا أفكر كيف سيكون مسارها أو كيف ستنتهي، ولا أخطط لها كما يفعل معظم الكتاب، الذين يدركون مجريات كل فصل مسبقًا قبل كتابته. طريقتي تستهلك المزيد من الوقت وهي محفوفة بالمخاطر إلى حد ما.
أركّز على ابتكار الشخصيات التي أريدُ أن أكتب عنها، مع كل تفاصيلها المعقّدة، ثم أجمعها معًا على الورقة. تفاعلات هذه الشخصيات مع بعضها البعض تنقل قصصي من فصل إلى آخر، وأحيانًا تأخذني إلى أماكن لم تخطر على بالي، ومواقف لم أفكر بها. بالتأكيد، يوجد دائمًا فكرة رئيسية في رأسي، تراقب من بعيد الحبكة التي أعالج فيها ظروف شخصياتي.
مصدر إلهامي هم الأشخاص الذين يحيطون بي، أسعى جاهدةً لالتقاط الكثير من ثقافتهم الثرية، وتاريخهم المثير للاهتمام، وإنسانيتهم المجيدة، وبأن أضفي من خلفيتي الشرق أوسطية واهتماماتي المهنية على القصص التي أرويها.
حرية الكتابة نصيحتي للكتاب الشباب الطموحين هي:" اكتب، في كل فرصة تتاح لك، في أي مكان يمكنك أن تمسك فيه قلمًا وتكتب على ورقة، أو على لوحة المفاتيح، لا تحتفظ بأفكارك في رأسك وتقول:" لدي قصة"، فإذا لم يكن بالإمكان لقصتك أن تُقرأ، لن تتمكن من مشاركتها.
وعندما تكتب، لا تفعل ذلك وكأن هناك من يراقبك، أكتب بحرية، بدون قيود أو شروط. لا تقلق بشأن تدفق الأخطاء في القواعد، والنحو والإملاء، فقط أطلق الأفكار الإبداعية بداخلك.
لكن، قبل أن تنطلق في هذه الرحلة المجنونة والمرهقة، قم بالواجبات الأساسية أولًا، اقرأ جميع أعمال المؤلفين المفضلين لديك، ثم اقرأ خارج منطقة الراحة الخاصة بك، فمن المهم أن تتعرف على جميع الفئات التي تعتقد أن عملك سوف يصل إليها، وأيضًا من المهم أن تعرف ماذا يوجد هناك.
أكتب عما يوجد في قلبك، يقال أن الكتاب يكتبون عما يعرفون، ولا أؤيد ذلك، بل أؤمن أن الكتاب أيضًا يجب أن يحاولوا الكتابة عما هو غير معروف لهم. لذا، إذا كنت تخطط لكتابة قصة خيالية، تخلى تمامًا عن الحقيقة
وقم بإنشاء عالمك الخاص وابتكر شخصياتك بكل تفاصيلها، وانطلق معها. ولكن إذا كانت قصتك تدور حول التاريخ، فمن المهم أن تتمسك بحقائق عالمك.
يجب على الكاتب الذي يريد أن يتطور وأن يحسّن مهاراته، ألا يتشبثّ بـ"الأنا"، كما أنصح بانضمام الكاتب إلى مجموعة كتّاب، ومشاركة عمله للحصول على النقد من قبل المحترفين في المجال، من المهم الاستماع وفهم مدى أهمية النقد البنّاء للكاتب ودوره في تحسين أعماله. الحساسية الزائدة تجاه النقد، ستجعلك ترفض التعليقات التي قد تكون مهمة جدًا لتجربتك.
كن صبورًا، صناعة النشر تتحرك بشكل بطيء، ومن يفتقر إلى الصبر سيعاني، ولكن الإيمان بنفسك، والحصول على دعم قوي من الكتّاب الآخرين والمهنيين والعائلة والأصدقاء، هي المفاتيح التي تفتح الأبواب المغلقة. أرسل عملك ولا تسمح لأي شيء أن يردعك.
من المجدي قراءة مراجعات إيجابية من كتاب آخرين حول كتبي الخاصة، من المجدي أكثر أن أسمع القراء يخبرونني عن كيفية ارتباطهم بشخصيتي ولماذا.
خلال إحدى فعالياتي، وقعتّ على نسخة من كتابي لقارئة، وكان مضمون التوقيع يتعلق بأمر قالته لي عن كتابي، بعد سنتين، أرسلت لي صورة مع توقيعي وذكرت أن روايتي وتعليقي شجعاها على اتخاذ خطوات إيجابية مهمة. لقد شعرت بسعادة غامرة لمعرفة أن كلامي قد يترك تأثيرًا على شخص ما بهذه الطريقة.
إن مشاركة قصصي مع أشخاص لم ألتقيهم قط، يجعلني أشعر بأنني على اتصال مع الآخرين، تمامًا كجذور الأشجار المتباعدة التي تشكل جزءًا من كيان واحد نابض، وكم أنا متعطشة، وكم نحن جميعًا متعطشون، لعالم متواصل بهذا الشكل.