للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
كان ذلك قبل عشر سنوات، عندما أخبرتني الممرضة أن طفلي قد أبصر النور، هرولت وقتها مسرعًا إلى غرفة الولادة، وحملته بين يدي لأول مرة، ولشدة فرحتي بلقاء ولد انتظرته طويلًا، بكيت، وشعرت بتعلق شديد به، دون أن أدرك أن هذا الطفل ذو العينين الواسعتين سيجعل مني أبًا مناضلًا.
منذ ذلك الحين، لم أتوقف عن التأمل في وجه طفلي، ومراقبته وهو يكبر أمام عيني، مخلدًا أجمل لحظات طفولته في قلبي، وقد اعتدت وقتها على التقاط الكثير من الصور الفوتوغرافية له، وهو يلعب، ويقفز، ويضحك، ويفكك ألعاب "المواتر" ليخرج منها المغناطيس، تمامًا كما كنت أفعل في صغري، باعثًا الفرح في كل أرجاء البيت. لقد كان طفلي أجمل شيء حصل في حياتي!
أصبح عمر ابني سنة، ثم سنتين، وبدأت أتشوّق إلى تلك اللحظة التي ينتظرها كل أب، أن أسمع طفلي ينطق كلمة "بابا". لكنه تأخر عليّ كثيرًا، انتابني قلق شديد لم يخفف من حدّته شيء ولا حتى طمأنة والدتي لي بالقول: "لا تحاتي يا خالد، حتى أنت تأخرت بالكلام"، فقررت زيارة الطبيب.
قرر المحامي خالد المهندي التفرغ لابنه، فترك وظيفته وأصبح يمارس المحاماة كمهنة حرة وكوسيلة يناضل من خلالها لأجل حقوق أطفال التوحد في قطر.
حتى ذلك الحين، لم يكن ابني قد زار الطبيب من قبل، إلا للقيام ببعض التطعيمات الروتينية، فقلبه كان سليمًا، ورئتاه تعملان بشكل جيد، ولم يعاني من أي عارض صحي خطير، ما كان استثنائيًا وحسب، هو بعض السلوكيات النمطية، مثل ترفرف اليدين، والدوران حول نفسه، والتي بدأت تثير استغرابي بالتزامن مع تأخر النطق، لكنني لم أكن أتصور أنها تخفي مصيرًا بأكمله!
قرار التفرغ
انتهت زيارتي للطبيب وأنا أحمل تقارير طبية تفيد بأن ابني مصاب بالتوحد! في تلك اللحظات، وجدت نفسي كمن ألقي في بحر عميق وبين يديه جوهرة نادرة، يريد أن ينقذها بأي ثمن رغم أنه لا يجيد السباحة، فتمسك بالخيار الوحيد للنجاة، وهو تعلم السباحة في لحظة الغرق، كي يحمي جوهرته ويصل بها إلى بر الأمان.
لقد أدركت تلك الليلة، أن ابني سيحتاجني بشدة في المراحل المقبلة من حياته، ولا شيء أغلى منه على قلبي، فقررت أن أتفرغ له وأعالجه، بالحب داخل البيت وبالدمج الاجتماعي خارجه. فمن اليوم وصاعدًا، سأكرس حياتي وسأقاتل من أجل ابني! وكانت الخطوة الأولى، أنني قررت ان أتفرغ وتركت وظيفتي وأصبحت أمارس المحاماة كمهنة حرة وكوسيلة أناضل من خلالها لأجل حقوق ابني وحقوق كافة الأطفال من ذوي التوحد في دولة قطر.
ثم انطلقت في رحلة طويلة، تطلبت مني أن أكون باحث علمي وناشط حقوقي، حيث بدأت أقرأ وأشارك بالندوات المحلية والعالمية حول التوحد، كما انضممت إلى لجان عدة، ومن بينها اللجنة الوطنية للتوحد، والتي طالبنا من خلالها كآباء بمزيد من الحقوق لأبنائنا، وفي عام 2016، تم إعلان الخطة الوطنية للتوحد.
التمكين بالدمج!
في الوقت الذي كنا نعمل فيه على إحداث تغيير في نظرة المجتمع لأطفال ذوي التوحد، والتوعية بقدراتهم، كنت أستيقظ كل صباح وأنا أفكر في كيفية دمج ابني في حضانة تتقبله، وكنت أنقله من روضة إلى أخرى، ولم يكن يستجيب أبدًا.
إلى أن تم إطلاق أكاديمية ريناد، عضو مؤسسة قطر، في العام 2016، وهي أكاديمية متخصصة للأطفال ذوي التوحد، ويعبر اسمها عن رسالتها، فريناد هو اسم شجرة يستخرج منها عود البخور ذو الرائحة الزكية تمامًا كما تستخرج الأكاديمية المكتسبات الطيبة من أطفال التوحد.
مع انتسابه إلى الكلية، بدأت أعيد اكتشاف طفلي الذي أخذ يستجيب ويتطور، وبدأت أدرك أنه مميز وسريع الفهم، فقد تم ادراجه في الأكاديمية في برامج الرياضيات، حيث أظهر براعة في حل المسائل الحسابية، كما تميز في ألعاب الذكاء الاصطناعي وورش مكعبات الليجو، وهو ما ولد لدي قناعة بأنه سيكون مهندسًا ناجحًا في المستقبل. كل ذلك زادني إيمانًا بأن التوحد ليس عائقًا أبدًا، وحفزني أكثر كي يتم الاعتراف بالأطفال ذوي التوحد كأشخاص مؤهلين وقادرين، وقد أسعدني أن أجد أن المؤسسات القطرية باتت تنشر الوعي بطرق عدة حول التوحد.
وكأني بولدي، أثناء مرورنا إلى جانب المقر الرئيسي لمؤسسة قطر في اليوم العالمي للتوحد، يسألني:" لماذا أضاءوا هذا المبنى باللون الأزرق"، فأخبره: لقد فعلوا ذلك من أجلك أنت"!
العلاج بالحب
يقول البعض أن الرجال لا يبكون لأنهم أقوياء، وأنهم يفكرون أكثر مما يحسون، لكنهم ليسوا محقين أبدًا، فنحن نختبر كل يوم، أجمل المشاعر، ونختبر مع أطفالنا أشد التجارب تأثيرًا، وندرك جيدًا، أننا في أعماقنا نمتلك قدرة مدهشة على العطاء والحب.
البكاء ليس دليل ضعف، بل هو دليل شجاعة، وكما يعبر عن الحزن، كذلك يمكن أن يعبر عن الفرح أو الفخر!
يرافقني ابني إلى "المجلس"، وهو ينافسني في الألعاب الالكترونية، ونحن نزور الحدائق العامة، والمجمعات، والسينما، ونسافر معًا
لقد أبكاني ولدي يوم دخلت لأول مرة إلى اجتماع المعلمين وأولياء الأمور في أكاديمية ريناد، فقال لهم بكل فخر:" هذا أبوي"!
وقد ذرفت دموعي فخرًا به يوم شاهدته يلعب كرة القدم في دورة تدريبية نظمتها مؤسسة قطر، وينافس ضمن أنشطة الأكاديمية مثل ركوب الخيل، السباحة، ويحقق نتائج ممتازة. وكما كنت أراقبه طفلًا وهو يستكشف العالم من حوله من خلال ألعابه، أجلس اليوم أمام "العزبة" التي بنيتها له في فناء البيت، مراقبًا إياه وهو يطعم الأرانب، ويداعب الخراف ويهتم بالأسماك والطيور.
ويرافقني ابني أيضًا إلى المجلس، وهو ينافسني في الألعاب الالكترونية، ومع شقيقته، نزور الحدائق العامة، والمجمعات التجارية، والسينما، وقد استكشف معي معرض كيتكوم الدولي بدافع شغفه بعلم الذكاء الاصطناعي، وهو ما آمل أن يجد أطفالنا ومن بينهم ذوو التوحد مستقبلهم فيه، كما يحب السفر، وقد سافر معي إلى الكويت، ونأمل أن نزور تركيا قريبًا، كي يشاهد الدلافين.
9 سنوات مرت حتى اليوم، هي عمر جوهرتي الثمينة، التي لم تغرق، بل وصلت إلى بر الأمان.
قوة الاعتراف
نحن سنرحل وسيبقى أبنائنا، وكآباء لأطفال ذوي التوحد تكمن أشد مخاوفنا في ما سيحصل لهم من بعدنا، فلنعمل من أجلهم ما دمنا أحياء، عبر تعزيز مكانتهم في المجتمع، وبناء مستقبل أكثر عدلًا لهم، وكي نراهم يعيشون حياة طبيعية، يعملون ويتزوجون وينجبون ويسكنون بيوتًا مستقلة، كي لا تغمض عيوننا عن الدنيا إلا ونحن مطمئنون على فلذات أكبادنا.
دع الجميع يعرف أن من يسير إلى جانبك هو طفلك، قدّمه إلى المجتمع والعالم، بكل قوة وشجاعة، بقوتك تجعل طفلك أقوى، أبناؤنا هم شعلة الحياة فكيف نخجل بالنور؟
ولكل أب لطفل من ذوي التوحد أقول:" دع الجميع يعرف أن من يسير إلى جانبك هو ابنك، قدّمه إلى المجتمع والعالم، بكل قوة وشجاعة، فبقوتك تجعل ابنك أقوى، أبناؤنا هم شعلة الحياة فكيف نخجل بالنور؟".