للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
يحدثنا جاسم محمد، خريج أكاديمية العوسج، عن رحلته مع التوحد وكيف عزّز إيمان والدته به وثقة الأكاديمية بقدراته مواهبه الإبداعية في البرمجة والموسيقى
في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك، وقفتُ أراقب والدتي تصلي، وحين انحنت للسجود، سمعتها تردد: "يا رب كن معي دائمًا، أمدني بالعون والقوة والإيمان كي أتمكن من أداء رسالتي تجاه ولدي جاسم، وأعنّي على توفير حياة كريمة له لا يعوز فيها شيئًا، ومستقبل لا يبدد ضحكاته بل يزيدها إشراقًا".
كنت أدرك أن أمي تحبني كثيرًا، لكنني لم أكن أفهم لماذا تحتاج إلى الكثير من القوة من أجلي؟ وتذكرت حين حملتني لأول مرة إلى المركز الطبي، كان عمري وقتها 4 سنوات، حيث لا زلت أذكر ملامح وجه أمي الحزينة عندما أخبرتها الطبيبة أنني من ذوي التوحد.
عندما تم تشخيصي بالتوحد، قالت لي والدتي:" نحن جميعًا مختلفون يا ولدي، ولو حاولنا أن نشبه بعضنا البعض فلن نكون مميزين أبدًا، ثق بأنني سأكون بجانبك دائمًا
في تلك الليلة، أجلستني والدتي في حضنها وقالت لي: نحن جميعًا مختلفون يا ولدي، ولو حاولنا أن نشبه بعضنا البعض فلن نكون مميزين أبدًا، ثق بأنني سأكون بجانبك دائمًا، ومعًا سنتجاوز أي تحديات تواجهنا في هذه الحياة".
جاسم محمد
لم أكن قادرًا على استيعاب ما تقوله أمي تمامًا، وعلى النطق كي أسألها، لكنني كنت أشعر بالطمأنينة بينما تتحدث إلي، ورغم أن عينيها كانتا تحبسان الدموع بصعوبة، إلا أنهما لم تخفيا بريق الأمل، الأمل الذي تمسكت به أمي لسنوات طويلة.
في كل مرة كنت أحقق فيها تقدمًا كانت والدتي تصفق لي وترفعني إلى أعلى بيديها، ثم تلتقطني، كانت تلك لعبتي المفضلة لأنها تجعلني أضحك مع أمي دون توقف
هكذا واجهنا التحديات
بدأتُ أتابع جلسات إعادة التأهيل، التدريب على النطق، وتعزيز المهارات، في مركز الرميلة، التابع لمؤسسة حمد الطبية، كي أصبح أكثر قدرة على الكلام والتعبير والتواصل. في كل مرة كنت أحقق فيها تقدمًا كانت والدتي تصفق لي وترفعني إلى أعلى بيديها، ثم تلتقطني، كانت تلك لعبتي المفضلة لأنها تجعلني أضحك مع أمي دون توقف.
ذات يوم، أهدتني والدتي علبة أقلام تلوين، ودفاتر، وبدأت تعلمني الرسم، الذي وجدته مسليًا وممتعًا، ثم سرعان ما تحول إلى وسيلة للتواصل، حيث بدأت أرسم كل ما أعجز عن التعبير عنه، فأصبحت أمي تفهم احتياجاتي بشكل أفضل.
كل ليلة قبل النوم، كانت أمي تحكي لي قصة، ثم تتوقف وتقول لي: اخترع النهاية التي تحب، فهذه القصة ملكٌ لك، وكنت أفكر مرارًا، إلى أن أنجح في ابتكار نهاية تدهش أمي، لدرجة أنها كانت تدوّنها وتقصها على إخوتي في اليوم التالي.
كثيرًا ما كانت والدتي تشبك أصابع يديها بأصابع يديّ، وتضغط عليهما فأسمعها تتأوه، لم أفهم لماذا، ولم أكن أشعر بأي شيء، ومع الوقت، بدأت أتوجّع، مثلها تمامًا، فكنت أقول: "أييي".. لقد أخبرتني والدتي عندما كبرت، أنها كانت بذلك تعلمني كيف أعبر عن مشاعر الألم.
مصدر الصورة: Banana Oil، عبر موقع Shutterstock
عندما تحكي لي أمي عن طفولتي المبكرة، تقول إنني كنت طفلًا جميلًا وسعيدًا أملأ البيت بضحكاتي، وأنني الآن أتمتع بشخصية حلوة. وهي تؤكد للجميع أنني شخص مميز ومبدع، وأن مستقبلي سيكون مشرقًا، وأنا أثق بكل ما تقوله أمي.
سمعت يومًا، والدتي تخبر والدي أن أحد الأساتذة قال لها:" ابنك لن يتمكن من دخول المدرسة، ليس لديه لغة ولا أي جسر للتواصل"، وبأنها أقسمت بأن تأخذني إلى هذا الأستاذ بعد أن أكمل دراستي الثانوية، لتظهر له أنه كان مخطئًا!
لقد تحققت أمنية أمي هذا العام، فقد تخرجت من أكاديمية العوسج، إحدى المدارس العاملة تحت مظلة التعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر، حيث تعلمت وترعرعت على مدار 6 سنوات، وأنا أستعد حاليًا للانتقال إلى الجامعة والتخصص في مجال التصميم الافتراضي.
في أكاديمية العوسج، تعلمت الجبر والحساب، وتعلمت كذلك اللغة الانجليزية، واستخدام التكنولوجيا، كما طورت مهاراتي في التصميم والبرمجة
مهارات إبداعية
في أكاديمية العوسج، وهي مدرسة متخصصة للطلاب ممن لديهم احتياجات تعليمية معينة، تعلمت الجبر والحساب، كما تعلمت اللغة الانجليزية، وتعلمت استخدام التكنولوجيا، وساعدني ذلك في التواصل بشكل أفضل مع أفراد من ثقافات مختلفة.
أفضل ما اكتسبته في مدرستي، هو الاحترام والتقدير من قبل أساتذتي وزملائي، وكذلك الثقة بالنفس، التي حفزتني لأن أطور مهاراتي في التصميم والبرمجة، حيث أقوم بابتكار فيديوهات، وألعابًا الكترونية، فأنا أتطلع في المستقبل إلى أن أكون مصمم ألعاب ومبرمج.
التوحد لم يشكل يومًا عائقًا أمامي، فأنا أتعلم، وأحلم، وهو ما يجعلني شخصًا مميزًا.
هذا ما أصبحت عليه في أكاديمية العوسج، طالب منتج ومبدع، لديه الكثير من الطموحات والاحلام، والكثير من الأصدقاء. وأنا أدرك تمامًا من أكون الآن، فأنا شخص مسالم ومبدع، حيوي ونشيط، أحب السفر وممارسة الرياضة، والاهتمام بأناقتي ومظهري، وأحب الثوب الوطني حيث أرتديه كل يوم إلى المسجد. كما أنني لا أحب القهوة وحسب، بل أبرع في تحضيرها!
كل ذلك يجعل عالمي جميلًا، محيطي ومدرستي وعائلتي جميعها عناصر تجعل مني شخصًا متفائلًا. التوحد لم يشكل يومًا عائقًا أمامي، فأنا أتعلم، وأحلم، وهو ما يجعلني شخصًا مميزًا.
ألم تقل والدتي لي يوم كنت صغيرًا، أن الاختلاف هو ما يجعلنا متميزين.