للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
’صوت السكون‘ - الفنان السوري همام السيد
طالبان من جامعة جورجتاون في قطر يتحدثّان عن أهمية إنشاء أرشيف مركزي للنزوح السوري يكون أساسًا للأسطورة السورية
عاش الشعبُ السوري أعنفَ عقدٍ وأكثرَه إيلامًا وتدميرًا في تاريخهم الوطني. وفي رحلة البحث عن الأمل، يمكن استكشاف الأسرار التي أعادت انبعاث المشاعر الوطنية عبر الإبحار في التجارب التي خاضتها شعوب أخرى ناضلت في سبيل الحرية. فعلى غرار الشعبين الإسكتلندي والفلسطيني، يمتلك السوريون ثروةً من المعارف يمكن الركون إليها والاستفادة منها.
قبل زمنٍ طويل، واجهت إسكتلندا مشكلةً مماثلة، إذ تركت سلسلة من الحروب الباهظة الثمن البلادَ في حالةٍ من الخراب، ماليًا وماديًا. وبالرغم من استرداد البلاد لعافيتها، ظلّ يُنظر على نطاق واسع إلى المرتفعات الإسكتلندية بوصفها مناطقَ "غير مجدية" لا تستحق أيَّ اهتمام. فالهضاب والجبال الإسكتلندية جعلت السفر والترحال أمرًا شاقًا على عربات وخيول النقل، التي كانت حكرًا على فئة محدودة آنذاك، وحجبت الرؤية بوقوفها حاجزًا يعيق مشاهدة ما يكمن خلفها، ففضّل السياح فرنسا عليها واستقلّوا عرباتهم عبر سهولها وحقولها المنبسطة، واستمتعوا بفاكهتها ونبيذها. وقد أعاق هذا المنظور السلبي انبعاثَ إسكتلندا من جديد وأوهن ثقافتها.
في عام 1760، نشر الشاعر جون ماكفيرسن ’نثرات من الشعر القديم‘ (Fragments of Ancient Poetry)، وهي مجموعة من القصائد كان يُفترض أن من جمعها هو القاص والشاعر الإسكتلندي الكفيف أوسيان –الذي يشبه في عماه الشاعر الإغريقي هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة. تروي النثرات قصةَ الملك الإسكتلندي فينجال، وسيرةَ سلالته وسقوطهم. كان أحفادُ فينجال محاربين عظماء مجّدت الرواياتُ والأساطيرُ بطولاتِهم في ميادين الحرب، فوصفت حدَّ سيوفهم كالبرق القاطع وأجسادَهم كالجبال الراسيات، وجعلتهم تلالَ الأرض وعشبها، وصوّرت رهافةَ مشاعرهم بأنها الرياحُ التي تعصف في أرجاء إسكتلندا. ومع كل هذه المناقب، كان لا بدّ من استكشاف البيئة المجسّدة في القصائد التي تحوّلت فيها المرتفعاتُ إلى نقطة محورية في البحث عمّا سيُعرف لاحقًا باسم The Sublime(المتوحش المهيب).
السير جيمس جوثري - ’ابنة المزارعة‘ (1883) – من باكورة الأعمال التي تحتفي بالحياة الريفية في إسكتلندا.
جون دنكان – ’خيّالة سيدهي‘ (1911) – مثال مبكر عن لوحةٍ تصوّر الأساطير الغيلية، تأثرت تأثرًا كبيرًا بالشاعر ماكفيرسن.
تبيّن فيما بعد أن ماكفيرسن كذب في ادّعائه، وأن القصائد كانت ملفقةً إلى حد كبير. ومع ذلك، ما زالت أسطورةُ محارب المرتفعات حيّةً إلى اليوم، وما زال فينجال شخصيةً أسطورية بطولية عند الشعوب الغيلية، وما زالت إسكتلندا مقصدًا لعشاق السياحة الطبيعية. إذن، ابتدع ماكفيرسن أسطورة، وقدّمها على أنها مصدر أصيل معترفٌ به، وطريقة التصوير هذه عبر التجربة المنقولة هي التي سنطلق عليها اسم ميثوبيا، أو صناعة الأسطورة.
لا ريب أن تعابير ماكفيرسن، شأنها شأن أي تعبير آخر، عرضةٌ للنقد.
على الجانب الآخر من هضبة الجولان السوري، شهد منتصفُ القرن العشرين نزوحًا شبيهًا بالنزوح السوري الأخير، إذ ترك حوالي مليون فلسطيني قراهم وبلداتهم ومدنهم في الفترة بين عامي 1947 و1949، أي ما يقرب من ثلثي الشعب الفلسطيني، إثر التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الصهيونية. وقلّةٌ منهم من سُمح لهم بالعودة.
غير أن الهوية الفلسطينية لم تبقَ حيّةً فحسب، بل وازدهرت. فبعد أن أدرك الفلسطينيون أبعادَ العدوان الاستيطاني الاستعماري، عملوا وحلفاؤهم جاهدين للحفاظ على هويتهم في القصص والحكايات والصور وسندات الملكية والخرائط والأعمال الأكاديمية، وتوثيق التاريخ والحقائق على الأرض، ولعلّ أبرز مثال على ذلك تجلّى في الحفاظ على الآثار المقدسة والمصنوعات اليدوية. ولم تنجح هذه الجهود في الحفاظ على الهوية الفلسطينية فحسب، بل ساعدتهم في نسج أسطورةٍ فلسطينية جديدة يمكن أن يلتف حولها الأطفال المولودين في الشتات بعيدًا عن الديار. كما ساعدتهم في حمايةِ المجتمعات الفلسطينية من الاندثار ورفعِ منسوب الوعي في أرجاء العالم حول ما يجري في فلسطين، ما سمح للشعوب الأخرى بالاطلاع على كفاح الفلسطينيين وتجربتهم وقضيتهم عبر نافذةٍ مباشرة تطلّ على وطنهم.
الفنان الفلسطيني سليمان منصور – ’جَمَل المحامل‘ – لوحة تسطّر معاناة اللاجئين الفلسطينيين.
كانت إعادة تصور الأسطورة الوطنية بعد النكبة خطوةً رئيسية في انبعاث الهوية الفلسطينية من جديد. وقد ساعد تقديمُ روايةٍ متجانسة مترابطة للعالم، تعتمد على المصادر الرئيسية بشكل أساسي، في تغيير نظرة الناس إلى فلسطين. وكان للرسوم والقصص القصيرة قيمةٌ كبيرة بالنسبة للأجيال التالية، فقد جسّدت الشخصيات التي كانت مرتبطةً بفلسطين وجغرافيتها كارتباط الشخصيات الأسطورية لدى أوسيان بهيئة حيوانات تقاتل بسيوف البرق، كما صوّرها ماكفيرسن. فهي لم تساعد الأغرابَ على الإحساس بالحلقة المفقودة لجغرافيا تلك الأيام بالأسلوب السياحي الذي جسّده ماكفيرسن فحسب، بل وأعطت فلسطينيي الشتات ارتباطًا محسوسًا بالأرض المغتصبة.
أما اليوم، فقد بات توثيقُ النزوح عمليةً أيسر بفضل التحسينات التي طرأت على تكنولوجيات نقل الكلام إلى نص مكتوب وغيرها من الأدوات المساعدة. وبخلاف التجربة الفلسطينية، أو حتى التجربة الإسكتلندية اعتبارًا من بدايات القرن الثامن عشر، لن يكون الحفاظُ على الهوية السورية في فترة ما قبل الحرب الأهلية مسعىً شاقًا، فلم يعد مستحيلاً كتابةُ قصص اللاجئين السوريين المائة وخمسين ألفًا في مخيمي الزعتري والأزرق، فردًا فردًا. بل يمكننا القيام بأكثر منذ ذلك والطلب إلى السوريين في سوريا إرسال كل أشكال الأعمال الفنية والمصنوعات اليدوية.
منصة (2014) – الفنان السوري وسيم مرزوقي.
يمتلك توثيق النزوح عبر القصص والصور والمصنوعات اليدوية والفنون تأثيرًا ثقافيًا وقانونيًا وأكاديميًا هائلًا. بل إن له قدرةً على المساعدة في جهود إعادة اللاجئين إلى أوطانهم عن طريق إثبات ارتباط كل فرد بأرضه. والأهم من هذا وذاك أن إنشاء أرشيف مركزي للنزوح السوري سيكون أساسًا للأسطورة السورية التي يمكن للأجيال القادمة من السوريين التحلقُ حولها والتمسكُ بها.
أحمد فريحات ومحمد أبو هواش
تخرج أحمد فريحات في جامعة إدنبرة بدرجة الماجستير في الأدب الإنجليزي مع مرتبة الشرف، وهو يطمح لمتابعة اهتمامه في مجال النقد المقارن للعناصر الجمالية.
تخرج محمد أبو هواش في جامعة جورجتاون في قطر، وهو عالم اجتماع طموح تشمل اهتماماته التاريخ والاقتصاد السياسي والشعر العربي. ويتابع دراسته حاليًا لنيل درجة الماجستير في الإدارة العامة.