للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
آراء متخصصين من قطر والولايات المتحدة والهند حول أهمية النقاش في الرعاية التلطيفية للأطفال
"فريقنا بأكمله تدرب على ما يجب قوله بالضبط للطفلة ذات السنوات الخمس قبل بتر ساقها بسبب ورم خبيث، وقد أردنا التأكد من كونها على علم بما سيحدث"... هكذا أرخت الدكتورة لولو ماثيو لذاكرتها العنان، مستعيدة تلك الواقعة، وهي الطبيبة المختصة في الرعاية التلطيفية للأطفال في معهد الطب التلطيفي في مدينة كاليكوت جنوبي الهند.
بعد شرح أسباب إجراء العملية الجراحية، انحنت الدكتورة ماثيو وسألت الفتاة برفق عمّا إذا كانت لديها أي مخاوف. هزت الفتاة الصغيرة رأسها نافية، ثم استدركت والدموع تتسرب إلى عينيها: "إذا بترتِ ساقي اليسرى، فأين سأرتدي خلخالي؟"
أحد أطباء الرعاية التلطيفية أثناء تقديمه تدريبًا لمتطوعين في مدينة كوزيكود جنوبي الهند
تقول الدكتورة ماثيو: "لو كان عليّ اختيار موقف واحد لترجمة المعنى الحقيقي للرعاية التلطيفية للأطفال، لاخترت هذا دون تردد". وأضافت: "إنه عالم تتشابك فيه براءة الطفولة والإيمان والأمل والشجاعة والألم واليأس، لكي تزرع الرحمة في قلوبنا"
الرعاية التلطيفية للأطفال
تتطلب الرعاية التلطيفية من المختصين تحسين مستوى حياة المرضى –وحياة عائلاتهم- الذين يواجهون أمراضاً تهدد حياتهم، وذلك بتجنب وتخفيف معاناتهم عن طريق الاكتشاف المبكر وتقييم وعلاج الألم وغيره من الآثار البدنية والنفسية والروحية.
يقول الدكتور إبراهيم جناحي، رئيس قسم التعليم الطبي ورئيس قسم أمراض الرئة في مركز سدرة للطب، عضو مؤسسة قطر: "يزداد التفاعل عمقاً بين الطاقم الطبي والمريض عندما يكون المريض طفلًا، إذ يعتمد على والديه في كل شيء، ولا يملك أي سيطرة على العلاج أو نتائجه، وتُتخذ القرارات بالكامل من قبل الأهل ومقدمي الرعاية الطبية."
"غالبًا ما يتشتت الآباء بين ما يرونه مطلبًا دينيًا، وما يطلبه الفريق الطبي لأطفالهم" الدكتور جناحي
وفقًا للدكتور جناحي، فإن هذا الاعتماد على الوالدين يثير الكثير من الأسئلة الدينية والمهنية والأخلاقية مثل استخدام مسكنات الألم الأفيونية، والحاجة إلى -أو عدم جدوى- اتباع إجراء علاجي مكثف بغرض الشفاء؛ ومدة بقاء المرضى الصغار المعرضين للموت في العناية المركزة، مفصولين عن والديهم وأحبائهم؛ وما إذا كان ينبغي وضعهم على أجهزة التنفس الصناعي أو إيقاف الأجهزة.
نقطة التلاقي- ولماذا يجب مناقشة هذه المسائل؟
يقول الدكتور جناحي، وهو أيضًا أستاذ طب الأطفال السريري في كلية وايل كورنيل للطب – قطر، إحدى الجامعات الشريكة لمؤسسة قطر: "غالبًا ما يتشتت الآباء بين ما يرونه مطلبًا دينيًا، وما يطلبه الفريق الطبي لأطفالهم. على سبيل المثال، في المعتقدات الإسلامية نحن لا نملك أرواحنا؛ بل الله يملكها".
الدكتور إبراهيم جناحي، رئيس قسم التعليم الطبي ورئيس قسم أمراض الرئة في مركز سدرة للطب، عضو مؤسسة قطر
ويستطرد الدكتور: "في مثل هذه الحالات، هل يُعتبر إبقاء طفل على أجهزة التنفس الاصطناعي على مدى طويل ذنبًا أو خطيئة؟ وهل يتعارض إيقاف الأجهزة عن مريض ميؤوس من حالته طبيًا مع تعاليم الإسلام؟ وعند أي حد يجب أن نقرر وقف التركيز على شفاء المريض، وتوجيه تركيزنا نحو رعايته؟"
برأي الدكتور جناحي، فإنه عندما يتعلق الأمر بأسئلة كهذه، فإن مجالات الرعاية الطبية والدين تتلاقى أكثر مما تتباعد، وهي نقطة تركز عليها الندوة التي تنعقد في مدينة الفاتيكان.
"يعد هذا المؤتمر أمرًا بالغ الأهمية لأنه سيجمع نخبة من رجال الدين، وخبراء ومناصري طب الشيخوخة والرعاية التلطيفية في مكان واحد، ولأجل هدف واحد وهو مساعدة المرضى على مواجهة الحالات الطبية المستعصية بأسلوب إنساني وغير مؤلم قدر الإمكان". الدكتور جناحي
وتنعقد ندوة، التي تحمل عنوان "الدين والأخلاقيات الطبية: الرعاية التلطيفية والصحة العقلية للمسنين" يومي 11 و12 ديسمبر الجاري، ويستضيفها مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية (WISH)، وهي تنعقد كمبادرة من مؤسسة قطر والأكاديمية البابوية من أجل الحياة.
يعدّ هذا المؤتمر أمرًا بالغ الأهمية لأنه سيجمع نخبة من رجال الدين، وخبراء ومناصري طب الشيخوخة والرعاية التلطيفية في مكان واحد، ولأجل هدف واحد وهو مساعدة المرضى على مواجهة الحالات الطبية المستعصية بأسلوب إنساني وغير مؤلم قدر الإمكان.
مخاوف ومعضلات شائكة
تُظهر الرعاية التلطيفية للأطفال مخاوف تختلف عن باقي المرضى، مثل استمرار نمو أجساد الأطفال وهم على سرير المرض على عكس البالغين، وكذلك الاعتماد الكلي على مقدمي الرعاية الصحية، ونظراً لفتوة أجساد المرضى الأطفال، فإنهم يعيشون تحت وطأة المرض لفترة أطول.
ويضرب الدكتور جناحي مثالًا واقعيًا على ذلك: "أحد مرضاي كان طفلاً وُلِدَ بمرض مدمّر للعضلات، مما جعله مشلولًا تمامًا، لكنه قضى 20 عامًا على جهاز التنفس الصناعي؛ لأن والده اختار إبقاءه على قيد الحياة عبر الأجهزة. اليوم لدي مريض آخر مصاب بالمرض نفسه، لكن حواري مع والديه مختلف تمامًا، حيث يمكنني إبلاغهما بإمكانية علاجه جينيًا نظرًا للتقدم الكبير الذي شهده قطاع الرعاية الصحية، بينما المريض الأول لم يعد مؤهلاً لهذا العلاج نظرًا لعمره. وهذا التضارب يمثل معضلة لمقدمي الرعاية الصحية عندما يتعين إخبار عائلتين بنتيجتين مختلفتين عن حالتين طبيتين متشابهتين".
إن الأطفال الصغار لديهم طريقتهم الخاصة في اكتشاف وتفسير وجود الله في حياتهم، خاصة أثناء المرور بتجربة مؤلمة وصادمة، مثل الأمراض المستعصية". الدكتور بيكر
الجانب الروحاني
لا يتردد الطاقم الطبي بالإشارة إلى الأهمية الكبرى للجانب الروحاني في الرعاية التلطيفية- حتى بالنسبة للمرضى الأطفال، ويعتبر العجز عن توفير ذلك تقصيرًا في مستوى الرعاية الصحية المقدمة.
يقول الدكتور جوستين بيكر، رئيس برنامج جودة الحياة للجميع في مستشفى سانت جود للأبحاث في ممفيس، في ولاية تينيسي: "إن الأطفال الصغار لديهم طريقتهم الخاصة في اكتشاف وتفسير وجود الله في حياتهم، خاصة أثناء المرور بتجربة مؤلمة وصادمة، مثل الأمراض المستعصية".
ويضيف الطبيب الأمريكي الشهير في مجال الرعاية التلطيفية للأطفال: "عندما يتعلق الأمر بالرعاية التلطيفية، فإن المعاناة هي عدونا الرئيسي والحقيقي، وسواء كانت المعاناة بدنية أو عاطفية، فإن الروحانية تلعب دورًا مهمًا في المساعدة على مواجهتها."
الدكتور جوستين بيكر (أقصى اليمين) مع أحد مرضاه
إجابة طفل عن سؤال "لماذا أنا يا الله"؟
يقول الدكتور بيكر إن الأطفال -مثل البالغين- يميلون إلى التساؤل حول معاناتهم، والتفكير أحيانًا: "لماذا أنا يا الله؟". ويضيف: "في أحد الأيام، أمضيت وقتًا ذي جودة مع صبي صغير كان يصارع الموت بسبب ورم الخلايا البدائية العصبية، وقد أخبر والديه برغبته بالتحدث معي على وجه التحديد... ما يزال ذلك الصباح محفورًا في ذهني لأنني أجريت محادثة مكثّفة حول الروحانية مع طفل يبلغ من العمر 10 سنوات. أخبرني ذلك الطفل كيف عانى ليتمكن من تقبّل حالته، وكيف أدرك أن المعاناة جزء من الحياة، وأن مرضه لا يغيّر قداسة الله في نظره؛ لأنه بسبب معاناته أتيحت له الفرصة للتحدث إلى الكثير من الناس، وكيف ساعده فهم علاقته بالله على فهم الحكمة من مرضه".
"أرى آثار الشفاء والراحة التي يمكن أن تجلبها الروحانية لمرضى الرعاية التلطيفية، ومن هنا تنبع أهمية ندوة ويش في الفاتيكان". الدكتور بيكر
ويتابع الدكتور بيكر: "يملك الأطفال من الحكمة ما يفوق أعمارهم، وقد شعرت بالدهشة والتواضع أمام حكمة هذا الصبي الصغير وهو يتحدث عن ألمه ومرضه رغم وهنه وعدم قدرته على الحركة. لحظات مثل هذه تترك أثرًا عميقًا في الأطباء".
وأضاف:" أرى آثار الشفاء والراحة التي يمكن أن تجلبها الروحانية لمرضى الرعاية التلطيفية، ومن هنا تنبع أهمية ندوة ويش التي تنعقد في الفاتيكان، وأنا متأكد أن جميع ممارسي الرعاية التلطيفية سيقرّون بهذا، حيث تسير الروحانية والعناية بشكل متواز، يُكمل كلٌّ منهما الآخر، ومن المنطقي أن يجتمع خبراء من الجانبين لمساعدة المرضى الصغار على العيش بطريقة جميلة وكريمة عندما يواجهون ظروفاً قد تحدّ من حياتهم أو يحتاجون إلى رعاية خاصة وهم يقتربون من نهاية الحياة".
أكثر من البالغين
تتصدر المناقشات حول الرعاية التلطيفية للأطفال جدول أعمال الندوة المقبلة في الفاتيكان، واستنادًا إلى الإحصاءات العالمية، فإننا متأخرون كثيرًا عن تدارك الواقع: فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يتم تشخيص 300 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين لحظة الولادة و19 عامًا بالسرطان كل عام. وتشير دراسات أخرى إلى أن أكثر من 20 مليون طفل بحاجة إلى الرعاية التلطيفية ولكن لا يمكنهم الوصول إليها.
إذا تمكنت الندوة القادمة من نقاش المحاور الدينية والثقافية، وزيادة الوعي بالحاجة إلى الرعاية التلطيفية للأطفال، فإن آثارها ستتجاوز جدران الفاتيكان لمساعدة ملايين الأطفال وعائلاتهم". الدكتورة لولو ماثيو
وهناك العديد من الأسباب، منها: عدم الوعي بفوائد الرعاية التلطيفية للأطفال، وندرة أطباء الأطفال المستعدين لتقديم خدماتهم، والاعتقاد السائد خطأ بأن الرعاية التلطيفية تعني انعدام الأمل بعلاج الأطفال، وعدم القدرة على قبول أن الأطفال، بصرف النظر عن تشخيص المرض، يستحقون الحصول على حياة كاملة.
"الأطفال ليسوا نسخًا مصغرة من الرجال والنساء، بل هم أكثر من ذلك!" الدكتورة ماثيو
هذا هو السبب في مناداة الأطباء، مثل الدكتورة ماثيو، بضرورة حدوث مثل هذه المناقشات: "إذا تمكنت الندوة القادمة من النقاش في المحاور الدينية والثقافية، وزيادة الوعي بالحاجة إلى الرعاية التلطيفية للأطفال، فإن آثارها ستتجاوز جدران الفاتيكان لمساعدة ملايين الأطفال وعائلاتهم".
"الأطفال ليسوا نسخًا مصغرة من الرجال والنساء، بل هم أكثر من ذلك!" الدكتورة ماثيو
كانت الطبيبة موجزة وحاسمة حين قالت إن أي شخص يشك في الحاجة إلى الرعاية التلطيفية للأطفال يجب أن يكون حاضرًا في غرفة العلاج، قبل بضع سنوات عندما كانت تقوم بفحص مريضة عمرها ثلاث سنوات وهي على وشك الموت بسبب ورم في المخ: "خلال الفحص، احتضنت الفتاةُ وجهَ أمها بين كفيها وقالت: "لا تبكي يا أمي".
وتضيف الدكتورة: "يؤكد هذا الموقف أن الأطفال ليسوا نسخًا مصغرة من الرجال والنساء، بل هم أكثر من ذلك! فلديهم نضج يفوق نضج البالغين؛ لأنهم يرون الأشياء بوضوح ورحمة لا يملكهما البالغون، واعتمادهم على البالغين هو ما يضعهم في وضع خاص، وعدم إعطاء الأطفال المحتضرين وعائلاتهم الدعم الذي يحتاجونه، يضاعف من حقيقة أنه ما يزال أمام مجتمعنا طريق طويل ليقطعه".