للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
قمة كليمنجارو هي أعلى قمة جبل منعزل في العالم.
عندما أبصرت تماضر السبيعي، الطالبة في مؤسسة قطر، الجبل الإفريقي الشهير شامخًا في الأفق البعيد، وكانت يومئذ طفلة صغيرة، راودها حلم اعتلاء قمته يومًا من الأيام؛ وكانت على موعد مع هذا اليوم في شهر فبراير.
مع اقتراب منتصف ليل الثامن من فبراير هذا العام، استيقظت تماضر السبيعي وكلّها ثقة أنها في غضون ساعات قليلة، سوف تبلغ قمة أعلى جبل منعزل في العالم: جبل كليمنجارو في تنزانيا.
على مدار ستة أيام، كانت الطالبة المغامرة بالصف الثاني عشر في أكاديمية قطر – الدوحة، إحدى المدارس العاملة تحت مظلة التعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر، تقطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام عبر دروب وممرات وعرة قاسية لتحقيق حلمها باعتلاء قمة الجبل الساحرة. كانت حينئذ قد بلغت بالفعل مرحلة تكابد فيها قلة النوم وتشعر بالتعب والإرهاق وهي على ارتفاع 4605 أمتار حيث البرودة القارسة.
تماضر السبيعي خلال رحلة تسلقها جبل كليمنجارو.
كانت تماضر تحث الخطى رفقة مجموعتها في مواجهة الرياح، يصعدون المنحدرات الجبلية والغبار والأتربة تتطاير حولهم من كل مكان؛ تجمدت أصابع يديها ووجها وسرى الخدر فيها بفعل الرياح الثلجية، ثم ما لبث الماء في زجاجتها أن تجمد أيضًا فأضيف إلى مشاق الرحلة خطر الجفاف والوهن العام. وأدركت في تلك اللحظة أنها إن أرادت إتمام رحلتها هذه بنجاح، فعليها أن تنفصل عن ألمها لكي تصرف ذهنها بعيدًا عن التفكير فيما يعتريه من ألم ووجع ومشقة مزعجة.
توضح تماضر الأمر قائلة: "لقد باتت كل خطوة أخطوها خلال رحلتي بمثابة معركة يخوضها ذهني، وكانت الوسيلة الوحيدة التي ارتسمت أمامي لبلوغ غايتي هي تصويب تفكيري في الاتجاه الصحيح؛ فشرعت حينئذ في النظر عميقًا داخل نفسي وسبر أغوارها بينما أنشئ صلةً مع الطبيعة من حولي حتى أفجر ينابيع القوة داخلي وأتمكن من مواصلة السير".
كنت أشعر أن كل خطوة تقربني من قمة الجبل هي بمثابة خطوة تقربني من النصر
لم يكن الوصول إلى منابع هذه القوة الكامنة بالأمر الهين، لا سيما وهي تشاهد متسلقين آخرين ضمن المجموعة ينهارون بسبب نقص الأكسجين ويحملون إلى سفح الجبل. تقول تماضر: "حرصت دومًا على أن أخطو خطوة تلو الأخرى محاولةً الاستمتاع بالرحلة التي كانت زاخرة بالمشاهد الطبيعية الفاتنة والمناظر الأخاذة، وكنت أشعر أن كل خطوة تقربني من قمة الجبل هي بمثابة خطوة تقربني من النصر. لقد تعلمت كيفية المضي قدمًا ومواصلة السير متجاوزة ساعات من الألم، وتعلمت أيضًا أن أصرف ذهني إلى التركيز على الأشياء الجميلة المحيطة بي بدلاً من التفكير في السلبيات."
كان مشهد نور القمر الساطع على قمة الجبل أمام ناظريها واحدًا من المشاهد الآسرة الكثيرة التي ساعدت تماضر في صرف ذهنها عن التفكير في الألم ومنحتها القوة التي تحتاجها لمواصلة السير واضعةً وجهتها الأخيرة نصب عينيها، فدفعت قدراتها إلى أقصى الحدود لتتمكن في تمام 6:41 صباحًا من تحقيق إنجاز لا يقوى على الظفر به سوى قلة قليلة من الناس".
في سياق تعليقها على هذا الإنجاز تقول أصغر شابة قطرية أطلت على العالم من فوق قمة كليمنجارو: "كان المشهد بالأعلى ساحرًا يفوق الوصف؛ الشمس والقمر معًا يتشاركان صفحة السماء، وسنحت لي فرصة نادرة أن أرى القمر يميل إلى المغيب شيئًا فشيئًا بينما يزداد وهج الشمس سطوعًا."
كيف بدأت الحكاية؟
رافقت تماضر أسرتها في زيارة إلى تنزانيا وهي طفلة، وهناك رأت جبل كليمنجارو من بعيد فانبهرت بجلال هذا المشهد وبات اعتلاء قمة الجبل حلمًا يراودها منذ تلك اللحظة.
لطالما شعرت بوجود جزء من ذاتي في الطبيعة؛ إذ أشعر بين أحضانها بأقصى درجات السعادة والسكينة
لم تكن رحلتها إلى تنزانيا سوى واحدة من مغامرات عديدة خاضتها مع أفراد أسرتها؛ فقد كان والدها عاشقًا للمغامرات ودأب على اصطحاب أسرته إلى أماكن جديدة ومثيرة. تعلق تماضر على ذلك قائلة: "لطالما تملكني هذا الشغف وتلك الرغبة في خوض غمار المغامرات الصعبة منذ صغري بفضل أسرتي. وقد وضعت لنفسي هدفًا يتمثل في صعود قمم الجبال السبع الأعلى، بل إنني علقت صورًا لها جميعًا في جنبات غرفة نومي. وأرى أن استهلال المسير باعتلاء قمة كليمنجارو لهي محطة مذهلة ومثيرة لبداية عقد جديد في هذه الألفية."
كانت الأنشطة المتصلة بالطبيعة مثل رحلات السير الطويلة وزيارة المعالم الطبيعية والسياحية هي المفضلة لدى تماضر خلال رحلاتها الأسرية، وعن ذلك تقول: "لطالما شعرت بوجود جزء من ذاتي في الطبيعة؛ إذ أشعر بين أحضانها بأقصى درجات السعادة والسكينة، حتى إنني تراودني فكرة الانتقال للعيش في كوخ أو بيت خشبي صغير وسط غابة أو ما شابه عندما يتقدم بي العمر."
كان جبل كليمنجارو الخيار الأول المناسب للتسلق انطلاقًا من عشق تماضر للطبيعة؛ إذ يمر متسلقو هذا الجبل تحديدًا على خمس مناطق مناخية وإيكولوجية مختلفة: المنحدرات السفلى والغابة والأرض السبخة وصحراء الأراضي المرتفعة وقمة الجبل، وهذا التنوع يتيح فرصة نادرة للاستمتاع بالعديد من عجائب الطبيعة خلال فترة زمنية قصيرة.
تقول تماضر: "لطالما رغبت في تسلق جبل كليمنجارو؛ فهو جبل ساحر ذو طبيعة فاتنة. وقد تحدثت مع العديد من متسلقي الجبال ممن كانت تجربتهم الأولى على الإطلاق مع كليمنجارو، وأخبروني أنني سوف أقهر تحديات جمة داخلي لدى تسلقه؛ إذ قالوا إنه بمجرد أن تطأ قدماك قمة الجبل سوف ينفتح داخل نفسك شيء ما كان مغلقًا، وسوف تدركين ذاتك على الحقيقة لأنك سترافقينها وحدها لفترة طويلة؛ فليس هناك بالأعلى سوى أنت وذهنك."
رحلة تسبق أخرى
لا يستطيع كل أحد أن يتسلق جبلاً ما هكذا ببساطة، لا سيما وإن كان هذا الجبل هو كليمنجارو الذي يشير التقرير الصادر عن متنزه كليمنجارو الوطني عام 2006 إلى أن النجاح في اعتلاء قمته لا يحالف إلا 45% فقط ممن يقدمون على هذه المغامرة. ولما كانت تماضر على دراية باحتمالية الفشل هذه، فقد بذلت أقصى ما في وسعها من أجل الاستعداد لهذه الرحلة، وفي الوقت نفسه لم يسبق لها مطلقًا أن حاولت تسلق أحد الجبال.
أنا من هذا النوع من الأشخاص الذين يواصلون السير والمضي قدمًا مهما كانت الظروف، ناهيك عن أن تجربة مثل هذه ربما لا تأتيك إلا مرة واحدة في العمر
أدركت تماضر، بوصفها متسلقة جبال مبتدئة، أنه كان لزامًا عليها أن تحصل على التدريب المناسب قبل الإقدام على هذه المحاولة؛ فانضمت إلى مركز تدريبات اللياقة البدنية في الدوحة المسمى "Altitude Elite" وانتظمت في جلسات تدريب هوائي (أيروبيكس) عالية الشدة خمس مرات أسبوعيًا لمدة ستة أشهر قبل انطلاق رحلتها. أما في أيام الراحة من التدريبات، فكانت تجري لمسافة تتراوح بين 4 و5 كيلومترات حتى يظل جسمها معتادًا على النشاط الدائم. تقول تماضر عن رحلة الاستعداد هذه: "لقد كانت التدريبات صارمة للغاية، إلا أنني كنت على دراية بحتمية القيام بهذا القدر من التدريبات حتى أحظى بتجربة ممتعة وشائقة بالأعلى فوق الجبل. كان التدريب صعبًا وشاقًا في بدايته، ولكنه ازداد سهولة يومًا بعد يوم."
غيّرت تماضر كذلك عاداتها الغذائية؛ فتحولت إلى حمية نباتية لكي تشعر بالخفة خلال التدريبات، ولاحظت بالفعل اختلافًا في قدرتها على التحمل في غضون بضعة أسابيع من هذا التحول؛ إذ كانت تستطيع قبله أن تتسلق لارتفاع 60 طابقًا ثم تنهك تمامًا، ولكن بعد تعديل نظامها الغذائي أضحت قادرة على التسلق لارتفاع 100 طابق.
بالرغم من كل هذا الجهد الذي بذلته استعدادًا لرحلتها، كان من حولها يشككون في قدرتها على النجاح، وتتذكر تماضر ذلك فتقول: "كانوا يقولون لي إنك لا تزالين في الثامنة عشرة من عمرك، هل أنت واثقة من قدرتك على القيام بهذا الأمر؟، وكان ردي عليهم دائمًا أنني واثقة من ذلك مائة بالمائة."
تتابع تماضر قائلة: "كنت أدرك أن لحظات من الشك سوف تنتابني، لكنني أتمتع بقدرة كبيرة على التكيف؛ فأنا من هذا النوع من الأشخاص الذين يواصلون السير والمضي قدمًا مهما كانت الظروف، ناهيك عن أن تجربة مثل هذه ربما لا تأتيك إلا مرة واحدة في العمر؛ فمتى سأكون قادرة على خوضها مرة ثانية؟"
الرحلة
سافرت تماضر إلى إفريقيا مع وكالة سفريات تسمى "رحالة"، ولم يكن قائد الرحلة بالوجه غير المألوف؛ فقد كان قائدها الشيخ محمد بن عبدالله آل ثاني، أول قطري يعتلي قمم الجبال السبع الأعلى في العالم.
كان قائد الرحلة مصدر إلهام دائم لتماضر طوال فترة تدريبها وخلال رحلة التسلق، وتقول عن ذلك: "لقد أصبح الشيخ محمد رمزًا أتطلع إلى مجاراته؛ فهو من علمني أن أحلق بأحلامي إلى المعالي، ولم أكن لأحقق هذا الإنجاز لولا وجوده."
إذا لم يكن ثمة دروس تعلمتها سوى درس واحد، فإنه قطعًا قدرتك على قهر أشد الضغوط الجسمانية ضراوة بالاعتماد فقط على ذهنك
يمكن الوصول إلى قمة جبل كليمنجارو عبر ستة مسارات مختلفة، بيد أن تماضر ومجموعتها المرافقة اختاروا المسار المسمى "ماتشام" للاستمتاع بالمشاهد الجميلة الخلابة على امتداده. استغرق الوصول إلى القمة سبعة أيام تراوحت خلالها مدة السير صعودًا من 6 إلى 7 ساعات يوميًا.
وبحلول نهاية اليوم الأول، بدأت تماضر بالفعل تشعر بآلام في العضلات، ولكنها أصرت على ألا يحول هذا الأمر دون تحقيق هدفها. وتقول تماضر أن الأمر بات أيسر عليها في الأيام التالية لأن المناظر الطبيعية الأخاذة ساعدتها في صرف ذهنها عن التفكير في الألم والإجهاد.
تصف تماضر شعورها في تلك اللحظات قائلة: "شعرت في أثناء سيري بين الأشجار والمناظر الطبيعية الساحرة أنني متصلة بالطبيعة من حولي ومتصلة بالجبل أيضًا. من الضروري والمهم جدًا أن تحترم الجبل، وأن تتقدم خطوة خطوة لكي تتأقلم مع الوضع كما ينبغي. لقد أتاحت لي هذه الرحلة فرصة ثمينة لضبط إيقاع نفسي واستيعاب البيئة المحيطة داخلي وتقدير جمال الطبيعة وسحرها."
كان اليوم السابع هو الموعد المضروب لبلوغ القمة، ما تطلب من تماضر السير لمدة 14 ساعة في ظل ظروف قاسية، وتتذكر ذلك بقولها: "كان هذا اليوم أصعب أيام حياتي على الإطلاق، ولكن عندما أدركت غايتي أخيرًا غمرني شعور رائع بالنجاح والإنجاز."
ومع آخر أيام الرحلة بدأت مسيرة الهبوط إلى سفح الجبل، وكانت تماضر تدرك عند هذه المرحلة أنها في اليوم التالي سوف تعود إلى سابق عهدها وروتين حياتها المعتاد بعدما خاضت هذه التجربة المثيرة التي تغير حياة المرء، فتملكها شعور عميق بالأسى والحزن وهي تخطو على نفس الدرب نزولاً إلى السفح بينما تموج مخيلتها بالذكريات.
إلهامٌ مورده الجبل
تركت تجربة تسلق كليمنجارو انطباعًا عميقًا في نفس تماضر، وتؤكد أن الدروس التي تعلمتها من هذه التجربة ستظل معها مدى الحياة.
بدأ حلم تمضار لتسلق الجبل عندما شاهدت قمة الجبل خلال إجازة في طفولتها.
استغرق الوصول إلى القمة سبعة أيام تراوحت خلالها مدة السير صعودًا من 6 إلى 7 ساعات يوميًا.
بعد أن شاهدت العالم من على قمة جبل كليمنجارو، تتطلع تماضر إلى تسلق قمم جديدة.
تقول تماضر أن تجربة تسلق الجبل منحتها فرصة لتقدير جمال الطبيعة وسحرها.
عن الدروس المستفادة تقول تماضر: "إذا لم يكن ثمة دروس تعلمتها سوى درس واحد، فإنه قطعًا قدرتك على قهر أشد الضغوط الجسمانية ضراوة بالاعتماد فقط على ذهنك؛ فمتى وصلت إلى ذلك المستوى من الثبات ورباطة الجأش والرغبة في إحراز النجاح، بات بمقدورك حينئذ تحقيق أي شيء تريده. وهذا الدرس تحديدًا بوسعي أن أطبقه عند مواجهة أي تحدٍ يعرض لي في المستقبل."
لقد كان شغف تماضر وروحها الإيجابية المتقدة سببًا في إلهام من حولها، فتولدت الرغبة لدى كثيرين منهم الآن في الإقدام على تجربة تسلق الجبال، لا سيما الشابات القطريات.
تقول تماضر: "يرغب كثير من أصدقائي الآن في استكشاف قدراتهم الكامنة وما يمكنهم فعله؛ فقد شرعت تجربتي الشخصية بابًا إلى عالم من الفرص المتاحة لأبناء بلدي، إذ إن قليلاً من القطريين في مثل سني يرغبون في ممارسة تسلق الجبال، لا سيما الشابات القطريات."
تفتخر تماضر كثيرًا باعتلائها قمة كليمنجارو وهي أصغر قطرية تحقق مثل هذا الإنجاز، بيد أنها عازمة على تحقيق مزيد من الأهداف وخوض مزيد من المغامرات؛ فهي تخطط لمواصلة التحدي ودفع حدود نفسها لكي تمثل مجتمعها وتلهم الآخرين لتحقيق منجزات استثنائية. وبالفعل تدرس تماضر خيارات تجربتها المقبلة وأي قمة سوف تتطلع إلى الوقوف فوقها، واضعة نصب عينيها طموحها الأكبر؛ ألا وهو اعتلاء القمم السبع جميعها.