للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
احتجاجات ضد العنصرية في البرازيل، حيث كشفت البيانات عن ممارسات التحيز ضد الباحثين عن وظائف.
مصدر الصورة: Felipe Manorov Gomes، عبر موقع Shutterstockتحدثنا الدكتورة لوانا أوزميلا، الباحثة التي تقدم خدمات استشارية لجامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر حول قضايا الجندر والسياسات العامة، عن دور البيانات في تقديم رؤية متعمقة تكشف عن استمرار تجذر التصورات الخاطئة عن الأشخاص في الأذهان
كان لقضايا العرق والجندر تأثير عميق على تشكيل ملامح الطريقة التي أفكر بها منذ سن مبكرة نسبيًا؛ فقد نشأت وترعرعت في قلب النضال الذي يخوضه مجتمع من البرازيليين ذوي البشرة الداكنة. ولما كان أصحاب البشرة البيضاء هم الغلبة في حرم كلية الاقتصاد التي درست بها في الجنوب البرازيلي المتمحور حول الثقافة الأوروبية، فكثيرًا ما كنت أخفف من حدة نشاطي الحراكي حتى يتقبلني هذا المجتمع أو تفاديًا لما قد يراه البعض من قبيل القضايا المثيرة للكثير من الجدل. وفي نهاية المطاف سافرت خارج البلاد سعيًا وراء إتقان فن استخدام النقد الاقتصادي القياسي حتى أتمكن من تفكيك جوانب التعصب الأعمى على أساس العرق والجندر بفعالية أكبر.
اكتسبت مهارة استخدام البيانات في التوصل إلى نتائج تشخيصية قائمة على الأدلة لفهم طبيعة المشكلات الاجتماعية وإيجاد حلول لها. واليوم أتوخى الاعتماد على البيانات والنماذج في كل ما أقوم به؛ البيانات التي تساعدنا في كشف المشكلات الخفية والوقوف على أسبابها الجذرية، والنماذج التي نخلص بها إلى توقعات محددة وتسهم بشكل أفضل في ابتكار حلول لتلك المشكلات.
حرصت على امتداد مسيرتي المهنية في مجال التنمية الدولية على صقل هذه المهارة وتطويرها بطرق شتى، لم تقتصر على تطبيق أساليب معقدة مثل العلوم السلوكية والتجارب الموجهة باستخدام عينات عشوائية فحسب، بل شملت أيضًا تقديم المشورة للحكومات حول أكثر الحلول فعالية من حيث التكلفة لمعالجة المشكلات التي تواجهها.
الدكتورة لوانا أوزميلا.
أقيم حاليًا في منطقة الخليج، وأدير شركة عالمية تركز نشاطها على استخدام البيانات لمعالجة المشكلات الهيكلية في السياسات العامة مثل التمييز على أساس العرق والجندر، والإنصاف والإدماج الاجتماعيين، وتصميم هيكل الخدمة المدنية وتنفيذه ومتابعته وتقييمه.
من بين الملاحظات التي استرعت انتباهي بعد مقتل جورج فلويد التزام الصمت من جانب القطاع الخاص في العديد من المؤسسات في الخليج بينما ترددت في جنبات العالم أصداء الالتزامات والتعهدات بمناهضة العنصرية والتمييز. أرى أن ذلك الموقف يعزى في جانب منه إلى الاعتقاد بأن العنصرية ربما تكون مشكلة تخص المجتمع الأمريكي بدرجة أكبر من نظيره الخليجي، وهذا التصور يتحمل اللوم عليه جزئيًا من وجهة نظري الإعلام الأمريكي الذي حوّل قضية العنصرية إلى سلعة للتصدير ترسخ الأدوار النمطية الملصقة بالأمريكيين من أصول إفريقية في شتى بلدان العالم، بيد أن هذا التصور يُعزى جزئيًا كذلك إلى شح البيانات وانعدام الحوار المستنير حول العلاقات بين الأعراق في العالم العربي.
يجب ألا ننسى أن العبودية التي استمرت في الأمريكتين لما يقرب من 400 عام ظلت تمارس في العالم العربي لما لا يقل عن 1300 سنة، وقد استرق هذا الأخير العديد من الجماعات العرقية إلا أن الأفريقيين من منطقة جنوبي الصحراء الكبرى كانوا الأدنى رتبة اجتماعية بوجه عام، وهذا التاريخ المتطاول من المعاملة السيئة للرقيق ذوي الأصول الإفريقية – بصرف النظر عن أنها تبدو حميدة نسبيًا مقارنة بنظيرتها في الأمريكتين – خلّف العديد من الصور النمطية وأشكال التحامل بين العرب.
قد تبدو أشكال التحامل هذه غير مؤذية أو ضارة ما دامت محصورة داخل أسوار ذهنك فحسب، غير أن الأدلة تشير إلى أن حمل أحكام وتصورات خاطئة عن الناس سوف يدفعك يومًا ما إلى التصرف من منطلق هذه التصورات أو ممارسة التمييز ضد آخرين
والسؤال المطروح الآن: إلى أي مدى تظهر الصور النمطية وأشكال التحيز العنصري المكشوف داخل المجتمع والمؤسسات؟ وهل يؤثر العرق أو الإثنية على قرارات الأشخاص؟ على الباحثين والأكاديميين تناول هذا الموضوع باهتمام خاص في المنطقة العربية.
خلال الفعالية الافتراضية التي استضافتها حديثًا جامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر، تحت عنوان "العنصرية والتمييز في منطقة الخليج"، استهللت النقاش بتذكير الحضور بأوجه التحيز التي نمارسها جميعًا ويتعين علينا أولاً أن نقر جميعًا بوجودها. لقد أتاحت جامعة هارفارد لسنوات عديدة اختبارات ضمنية يتضح من خلالها كيف تؤثر علينا التحيزات المتعلقة بالجندر والعرق والدين والهوية الجنسية، وليس هناك من شخص أعرفه خضع لهذا الاختبار إلا شعر بالأسف الشديد بعد ظهور النتائج؛ لأننا جميعًا ننزع إلى الظن أننا لا نحمل داخلنا أية تحيزات أو أوجه تحامل.
إن التحامل يعني بالدرجة الأولى انتقاصًا غير مبرر للقيمة الحقيقية لمجموعة من الناس؛ انتقاصًا من جمالهم أو ذكائهم أو شخصيتهم. وقد تبدو أشكال التحامل هذه غير مؤذية أو ضارة ما دامت محصورة داخل أسوار ذهنك فحسب، غير أن الأدلة تشير إلى أن حمل أحكام وتصورات خاطئة عن الناس سوف يدفعك يومًا ما إلى التصرف من منطلق هذه التصورات أو ممارسة التمييز ضد آخرين.
وتتكبد المجتمعات كلفة عالية للغاية بسبب التمييز العنصري؛ إذ يحد من الفرص التعليمية والاقتصادية المتاحة لقطاعات من السكان ويترتب عليه عواقب سلبية تؤثر على المدخرات والاستثمارات الإجمالية على المدى الطويل. وتقدر شركة ماكنزي أن الفوارق الاقتصادية الممنهجة على أساس العرق قد تخفض الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 6 في المائة، وهذا يمثل أكثر من ستة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لدولة قطر. ومع ذلك تساعدنا البيانات في فهم إلى أي مدى يحمل الأفراد والمؤسسات تصورات خاطئة عن بعض الناس، وما يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية غير متناسبة على بعض الجماعات دون غيرها.
تساعدنا البيانات في فهم إلى أي مدى يحمل الأفراد والمؤسسات تصورات خاطئة عن بعض الناس، وما يترتب على ذلك من تأثيرات سلبية غير متناسبة على بعض الجماعات دون غيرها
وكان من جملة ما أوصيت به الحكومات في البرازيل وكوستاريكا وكولومبيا وبنما وشيلي وترينيداد وغيرها من البلدان الأخرى أن تتوقف عن التصرف مثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمال وتترك جسمها بأكمله عرضة للخطر؛ فتجنب جمع البيانات ذات الصلة بقضايا العرق لن يخلصنا من العنصرية أو التحيزات.
إن الخطوة الاستراتيجية الأولى تتمثل في جمع البيانات وتحليلها؛ فقد أجرى الاتحاد الأوروبي حديثًا دراسة استقصائية عن وضع السود في أوروبا، وأظهرت نتائجها أن العنصرية متفشية هناك أيضًا؛ إذ أوضحت الدراسة أن 63% من الأقليات في فنلندا يتعرضون للعنصرية، وجاءت النسبة في لوكسمبورج 52%، وفي إيرلندا 51%، وفي الدنمارك وإيطاليا 48%، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. وكان من أثر هذه البيانات أن وضعت القضية في دائرة الضوء وأثارت بشأنها نقاشات من أجل إيجاد حلول لمواجهة العنصرية في أوروبا.
لا تحمل البيانات وحدها مفتاح الحل لجميع مشكلاتنا، ولكن بدونها لن يجد القادة الراغبون في معالجة هذه التحديات ما يسترشدون به. يجب علينا أفرادًا ومؤسسات وحكومات أن نقرر بوضوح ما إذا كنا على استعداد لمجابهة هذا الأمر بالتزام تام.
معنى هذا أننا بحاجة إلى فهم أبعاد المشكلة أولاً، والخطوة الأولى في هذا الاتجاه إنما تتمثل في جمع البيانات ذات الصلة بأوجه التحيز الموجودة فعليًا داخل المجتمعات. ففي البرازيل، على سبيل المثال، لم تنتبه الحكومة إلى ممارسات التمييز المؤسسي والتحيز العنصري من جانب مرشدي الباحثين عن وظائف إلا بعدما بدأت في جمع البيانات عن التركيبة العرقية للباحثين عن وظائف. وفي كولومبيا، لم تدرك الحكومة أن الخدمات المراعية للاعتبارات الثقافية لم تكن متوفرة في المجتمعات التي يغلب عليها السود إلا بعدما جمعت بيانات عن الخلفية العرقية للنساء اللائي يبحثن عن مأوى ومساعدة في ظل حالات العنف. ومن هنا يتضح أن على الحكومات أن تفهم أولاً آليات ممارسة العنصرية حتى تتمكن من ردعها داخل المؤسسات التابعة لها.
ثمة سياسات تساعد في تصحيح التصورات الخاطئة وتبديد مشاعر الانزعاج المصاحبة لهذا الموضوع، وثمة سياسات أخرى لمعالجة المعاملة الجائرة داخل المؤسسات والتصدي للعنصرية المؤسسية، ولكن الإجراء الأهم يتمثل في ضرورة جمع البيانات وإجراء البحوث.
في أوروبا، التي كانت مسرحًا لاحتجاجات مناهضة للعنصرية مثل تلك التي شهدتها برلين، أظهر استطلاع أجراه الاتحاد الأوروبي انتشار العنصرية في العديد من البلدان. مصدر الصورة: Hernan J. Martin، عبر موقع Shutterstock
لا تحمل البيانات وحدها مفتاح الحل لجميع مشكلاتنا، ولكن بدونها لن يجد القادة الراغبون في معالجة هذه التحديات ما يسترشدون به. يجب علينا أفرادًا ومؤسسات وحكومات أن نقرر بوضوح ما إذا كنا على استعداد لمجابهة هذا الأمر بالتزام تام؛ فالخطوة الأولى تتأتى بإقرارنا جميعًا أننا نحمل تحيزات غاية في الخطورة، ثم تليها الخطوة الثانية وهي إيلاء الأمر ما يستحقه من اهتمام داخل المجتمعات وعلى مستوى السياسات العامة والدرس الأكاديمي.
لقد بادرت دولة قطر وأحرزت السبق على أقرانها في منطقة الخليج على جبهات عدة، وهذا المسعى الذي نناقشه سوف يتيح لها فرصة أخرى كبيرة تبرز من خلالها في مضمار التصدي لقضايا التحامل والعنصرية والتمييز في السياق الخليجي.