للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
لا يزال لبنان يتعافى من الانفجار الهائل الذي دمر المدينة قبل شهر.
مصدر الصورة: REUTERSيتحدّث الدكتور عبد الرحمن شمس الدين أستاذ اللغة والثقافة العربية في جامعة جورجتاون في قطر عن الذكريات الأليمة التي أعادها انفجار بيروت وعن المشهد اللبناني بما فيه من تنوع وتناقضات
" جاوَر الأنجم واحتل السحابا .." هذا ما حفظناه في طفولتنا عن وطننا الصغير لبنان، وكنا نتخيل جبله في أذهاننا البريئة عندما نسمع الشطر الثاني من البيت "جبلٌ مهّد للفردوس بابًا." وهذا البيت من شعر بولس سلامة هو أول ما خطر لي عندما رأيت السحابة البيضاء ترتفع في سماء بيروت نتيجة انفجار أشبه ما يكون بالنووي، فقد احتل هذا الانفجار السحاب فعلًا، ومهّد باب الفردوس للشهداء.
جاء هذا الانفجار في مرفأ بيروت متوّجًا لمعاناة لبنان واللبنانيين على مدى عشرة شهور مضت، كأنها رواية سينمائية محبوكة من قبل كاتب مهووس
جاء هذا الانفجار في مرفأ بيروت متوّجًا لمعاناة لبنان واللبنانيين على مدى عشرة شهور مضت، كأنها رواية سينمائية محبوكة من قبل كاتب مهووس، فكرُه مولعٌ بالألم والعذاب والدم والدمار.
الدكتور عبد الرحمن شمس الدين.
ولكن؟! هل هي عشرة شهور من المعاناة فقط؟
أم أنها ثلاثون سنة؟ أو ربما مائة؟!
هذا العام، عام 2020، يكمل لبنان مائة سنة بالفعل، فقد تم إعلان لبنان الكبير عام 1920، وقد يكون الوقت قد حان لنا كلبنانيين لنقوم بما يسمى "جردة حسابات،" لنرى ما الذي استطعنا تحقيقه بعد مرور قرن على تأسيس بلدنا الصغير.
لا يملك لبنان آبار نفط، ولا مصانع للطائرات، ولا ثروات حيوانية أو نباتية هائلة. لا شك أن لبنان يملك طبيعة خلّابة نستطيع أن نستشعرها وأن نشمَّ رائحتها الصباحية كلَّما استمعنا الى فيروز، ولكن في الحقيقة ليس هذا ما يميّز هذا البلد، إنّ ما يميّزه بالفعل هو في نفس الوقت ما يرهقه وينهكه ويقض عليه الحياة الهانئة، إنّ ما يميّز لبنان هو التّنوع والاختلاف في هذه البقعة الصغيرة جدًا؛ يتكبّد الناس عناء السفر والانتقال بين القارات.
إنّ ما يميّزه بالفعل هو في نفس الوقت ما يرهقه وينهكه ويقض عليه الحياة الهانئة، إنّ ما يميّز لبنان هو التّنوع والاختلاف في هذه البقعة الصغيرة جدًا
حتى يتسنّى لهم أن يتعرضوا لثقافة جديدة، أو يتعرفوا على شعب جديد ودين جديد وطائفة جديدة. في لبنان تستطيع أن تجد ذلك بعد رحلة ساعة في السيارة، فقرب الساحل من الجبل لا يُختصر بإمكانية السباحة والتزلج في نفس اليوم، كما درّسونا صغارًا في كتب الجغرافيا، وإنما تُمكنك هذه الرحلة من التعرف على عدة أديان وثقافات ولهجات مختلفة في يوم واحد. لكن الفاسدين المفسدين استطاعوا تحويل هذه النعمة إلى نقمة طائفية لعينة دمّرت البلد وقتلت شعبه.
إنّ أول ذكرى لي في حياتي تعود لعام 1982، أنا المولود عام 1977 أنتمي الى الجيل الذي وُلد مع الحرب، كنتُ مريضًا جدًا بمرض النكاف (أبو كعب)، هذا المرض الذي اكتشفت، وأنا في أمريكا، أنه لم يعد له وجود، وقد وضعتني أمي على فراش صغير في أحد ملاجئ الحي الذي كنا نسكنه، هربًا من موت القنابل والقصف والدمار. أذكر جيدًا كيف دخل علينا عمي الأصغر باكيًا، وكان حينها قائد فوج الإطفاء في مدينتنا، ليضمني الى صدره ويبكي بكاءً مريرًا، ظننت لوهلتي أن عمي يبكي لمرضي وارتفاع حرارتي، فأنا لم أكن أعلم أنه جاء ليخبر والدي بموت ثلاثة عشر فردًا من عائلتنا؛ جدتي لأبي، عمتي وزوجها وأولادهما الثلاث، زوجة عمي الحامل وأولادها الخمس، ولم يخرج حيًا من ذاك الملجأ غير عمّي أحمد شمس الدين صاحب القصة المعروفة التي سطرها الصحفي الأمريكي روبرت فيسك في كتابه "Pity the Nation،" وقد ذكرتها مؤخرًا الأديبة رضوى عاشور في كتابها "الطنطورية."
أذكر جيدًا التفاف الرجال حول أبي المُلقى على الأرض من هول الخبر الذي وقع عليه كالصاعقة، وما زلتُ أتساءل حتى اليوم كيف لرجل أن يتحمل مثل هذا؟! وكيف لابنة خالته (أمي) أن تقف بجانبه وهي التي فقدت أمها قبل ستة شهور في انفجارٍ مدمّر في مدينة صيدا؟
كان هذا أول ما رأته عيناي.
عادت إليّ هذه الذكرى، بعد ثمانية وثلاثين عامًا، عندما رأيت صور الأطفال الصغار الذين آذاهم انفجار بيروت. عادت إليّ صورة أبي متمثلًا بلبنان، ذاك الوطن التعب المرهق، الذي لا يعرف كيف يعالج أولاده
المرضى وفي أي ملجأ يخبئهم. يحاول جاهدًا أن يعالج أولاده المصابين بفيروس كورونا المستجد، يحاول أن يرد لهم أموالهم الضائعة بعد سنين من الجهد والكفاح، يحاول أن يستقبل جيرانه الهاربين من أهوال أوطانهم الشقيقة، فلا يجد لهم متّسعًا يلجأون إليه.
لطالما صُدِّعت رؤوسنا بسماع الحديث عن الفساد المستشري في مجتمعاتنا، سواء كان هذا الفساد من الأنظمة التي نهشت لحم أعمارنا، أو من الحكام الذين مازلنا نعاني من شطحات أفكارهم ومخيلاتهم الخصبة، أو من الأحزاب التي تكاثر عليها غبار التاريخ، أو من المؤسسات التي تظهر لنا العفاف لكنها تدعو الى تدمير كل من خالفها الرأي.
إنّ مشكلة الفساد المتجذرة في المشهد السياسي اللبناني، كانت ولا تزال محورًا أساسيًا في البنية السياسية اللبنانية. فالزبائنية والمحسوبية والمحاصصة وإخضاع أجهزة الدولة كلها قد نشأت على أنقاض علاقة المواطن بزعيمه والآخر وعلاقة الطوائف ببعضها البعض.
إنّ مشكلة الفساد المتجذرة في المشهد السياسي اللبناني، كانت ولا تزال محورًا أساسيًا في البنية السياسية اللبنانية
إلّا أنّ هناك الكثير من الكتّاب والمفكرين الذين حاولوا ربط هذه "النتائج" بعوامل سياسية مختلفة: كسيطرة الخارج على الداخل، والاستعمار، والأيديولوجيا والمشاريع الكبرى. طبعًا كل هذه القراءات لها أصول مرتبطة أشدّ الارتباط بالفكر والتوجه السياسي العالمي.
من بين كل هؤلاء المفكرين يبقى المؤرخ كمال الصليبي ببيته الذي احتوى منازل كثيرة- كتاب بعنوان بيت بمنازل كثيرة للمؤرخ كمال الصليبي- حاضرًا في أذهاننا وفي صورة لبناننا رغم الفساد وأزلامه. فرجالات هذه المنازل، مسلمين كانوا أم مسيحيين، استطاعوا أن يرسموا لنا صورة موحدة عن أرض ألفتها قلوبهم وتعلقت بها؛ لكن من المهم أن نستخلص من قصصهم، باختلاف توجهاتهم، أنّه من غير الممكن أن يطغى تاريخ مُتصوَر لجماعة، أو عشيرة كما يقول الصليبي، على جماعة أخرى. فلماذا الإصرار على عزف هذا النشاز؟
في أنحاء بيروت، تحمل المباني ندوب الانفجار الذي وقع في ميناء المدينة الشهر الماضي. مصدر الصورة: REUTERS
هل لأن العازف لا يعزف إلا نغمة واحدة؟ أم أنّ المشكلة في الآلة الموسيقية التي يعزف عليها؟
عبد الرحمن شمس الدين
أكمل دراسته الجامعية مع مرتبة الشرف في معهد المقاصد العالي للدراسات الإسلامية في بيروت، قبيل دراسته الديانات المقارنة والحوار الإسلامي المسيحي بجامعة القديس يوسف في بيروت. وبعدها التحق بقسم التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل على درجة الماجستير. وقام بتدريس اللغة العربية والدراسات الاجتماعية في الجامعة الأمريكية في بيروت قبل أن يلتحق ببرنامج الدكتوراه بجامعة جورجتاون حيث حصل على شهادة الدكتوراه. وهو يعمل حاليًا أستاذ اللغة والثقافة العربية في جامعة جورجتاون في قطر بينما يواصل أبحاثه حول المصطلحات العربية في صدر الإسلام.