إظهار جميع النتائج

مستجدات فيروس كورونا (كوفيد-19)

للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر

قصة | التعليم
29 July 2020

مقال رأي: وقفة تأملية باتجاه الحج عبر التاريخ

مشاركة

وفقًا للباحث يوسف وليد مرعي، إن القيود المفروضة على الحج بسبب جائحة "كوفيد-19" عززت حياة الناس الروحية.

مصدر الصورة: Andrew V Marcus، عبر موقع Shutterstock

يسلّط الباحث يوسف وليد مرعي الأستاذ في مؤسسة قطر الضوء على المحطات التاريخية التي تأثر بها موسم الحج

بصفتي مؤرخًا لتاريخ الحجّ والحجيج في التاريخ الإسلامي (الحج، العمرة، الزيارة)، فكرّتُ في الكتابة عن قرار إقامة موسم الحج هذا العام بأعداد محدودة جدًا لا تتجاوز الألف حاجٍّ ومن داخل المملكة العربية السعودية فقط. رغم غرابة القرار شكلًا إلا أنه وفي سياق استمرار وباء كوفيد-19، فإن هذا القرار يبدو هو الأسلم استنادًا لحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم:" إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا". ورغم ذلك فإن هذا القرار الجريء أثار قلقًا وجدلًا بين علماء الدين والذين كانوا ينوون الحج؛ ولكنني أعتقد انه ورغم عدم استطاعة الغالبية العظمى من جمهور المؤمنين تأدية عبادة الحج إلا أن العلاقة الروحية التي تربط المسلمين مع مكّة، المدينة المنورة، والقدس، ومكانة هذه المدن في نفوس المسلمين صارت وبسبب منعهم المؤقت أكثر قوّة وترابطا.

الباحث يوسف وليد مرعي، في صدد تأليف كتاب عن تاريخ الحجاج والحج في الإسلام.

سواء اتفق المرء مع قرار المملكة العربية السعودية المتعلق بالحجّ لهذا العام، أم لم يتفق، فلا بدّ من الإشارة إلى أن مناسك الحجّ شهدت تعليقًا كليّا أو جزئيّا، لنحو 40 مرّة، وذلك عبر الفترة التاريخية الممتدة من القرن السابع حتى يومنا هذا، وكان ذلك استجابة لظروف مختلفة مرّ بها المسلمون.

أقدم مثال في التاريخ يعود إلى عام 251 هجري، حيث قام إبراهيم بن يوسف السفّاك -وهو سليل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصهره، وقريبه من جهة ولده الحسن، وعدّو الخليفة العبّاسي، بقتل نحو ألف حاجّ في جبل عرفة، ونهب مكّة أيضًا.

إن قرار تعليق الحجّ ليس بجديد، ولكنّه أحد القرارات التي شهد التاريخ مثيلاتها كردّة فعل على الظروف القاهرة والتي تصبّ في مصلحة الحجيج

الباحث يوسف وليد مرعي

منذ عام 317 ولغاية العام 339 هجري، أغار القرامطة –طائفة من الإسلام الشيعي ومركزهم البحرين- على المسجد الحرام وأخفوا الحجر الأسود، وذبحوا آلاف الحجّاج إبّان ذلك، آنذاك توقفت مناسك الحجّ بالإكراه إلى أن دفع العباسيون فدية مقابل استعادة الحجر الأسود.  في عام 357 هجري، تسببّ الطاعون كذلك في إلغاء مراسم الحجّ. ومن عام 372 لغاية العام 380 هجري لم يُسمح للحجيج من خارج الحجاز بأداء فريضة الحج بسبب الصراع بين الفاطميين الشيعة والعبّاسيين السنة.

وبعدها أدّت الخلافات السياسية خلال الأعوام الممتدة بين 653-658 هجري، إلى السماح لسكان الحجاز فقط بأداء فريضة الحج دون غيرهم. خلال القرن التاسع عشر، وبصرف النظر عن وباء الطاعون الذي قتل في عام 1831 ثلاثة أرباع الحجاج، حينها شكّلت أوبئة الكوليرا بفئاتها الثلاث التهديد الأكبر للحُجّاج، وأدّت كذلك إلى إلغاء مناسك الحج.

إن قرار تعليق الحجّ ليس بجديد، ولكنّه أحد القرارات التي شهد التاريخ مثيلاتها كردّة فعل على الظروف القاهرة والتي تصبّ في مصلحة الحجيج. على الرغم أن المسلمين مضطرين للانتظار حتى العام المقبل لأداء فريضة الحج، إلا أنهم قد يشعرون بالراحة تجاه حقيقة أن تجربة تعليق مناسك الحج ليست الأولى من نوعها في التاريخ، بل شهدها المسلمون قبل عصرنا هذا.

يتبين لنا أن المسلمون يتمتعون بمرونة فيما يتعلق بموضوع أداء مناسك الحج خاصة فيما يتعلق بالصعوبات التي لا تعدّ ولا تحصى، والتي مرّوا بها بشكل فردي أو جماعي عبر التاريخ

الباحث يوسف وليد مرعي

قبل ذلك، دوّن القاضي والرحالة المعروف بابن بطوطة (779 هجري) -الذي كان تابعًا للمذهب المالكي- تجربته في إحدى سردياته والتي تحمل عنوان "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، قائلًا:" لباعث على النفس شديد العزائم وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. حزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور. وكان والديّ بقيد الحياة فتحمّلتُ لبعدهما وصبًا، ولقيتُ كما لقيا من الفراق نصبًا". إلا أنّ الحج اليوم لم يعد يستغرق السفر من عام إلى عامين، فقد قلّص التطور في قطاع النقل الجوي المدّة الزمنية للرحلة، وساعدت تطبيقات الهاتف المحمول في التخفيف من آلام التباعد التي كان يختبرها الناس في السابق.  

خلال ذلك، وفي كتابه "إحياء علوم الدين"، قدّم الإمام الغزالي (1111 م.) نصائح للحجيج من باب التمجيد، والتذكرة، وبثّ الأمل قائلًا:" وأمّا وقوع البصر على البيت: فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب، ويقدّر كأنه مشاهد لربّ البيت لشدّة تعظيمه إيّاه. وأرجوا أن يرزقك الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم كما رزقك الله النظر إلى بيته العظيم، وأشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذه التربة وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه. واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنّة آملين لدخولها كافة، وانقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين انقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين. ولا تغفل عن تذكر أمور الآخرة في شيء مما تراه فإن كلّ أحوال الحاج دليل على أحوال الآخرة".

نأمل بأن يكون للحجاج تجربة عميقة وجديرة للتطلع إليها في العام المقبل

الباحث يوسف وليد مرعي

بعد ذلك، كتب الرحالة ناصر خسرو الذي عاش في القرن الحادي عشر (481 هجري) لصديقه الذي أدّى مناسك الحجّ ولم يُدرك معانيها بعمق، قائلًا له: "يا صديقي إذن أنت لم تحجّ، ولم تصبح في المقام كالمعدوم المقيم. ذهبت ورأيت مكة وعدت، واشتريت محنة البادية بالدراهيم. إذا أردت أن تحجّ بعد هذا، فاعمل مثل هذا الذي قدمت لك من تعليم".   

في القرن العشرين، ترك الحجّ ذكريات ثمينة وتجربة روحية عميقة لدى السيدة الأرستقراطية الأسكتلندية "اللايدي إفلين (زينب) كوبلد" وهي تعدّ أول سيدة بريطانية تؤدي مناسك الحجّ، كتبت آنذاك بما معناه "إن الزمن لن يمحو من ذهني وذاكرتي المشاهد التي رأيتها في حدائق المدينة، وسلام مساجدها، وما وقعتُ عليه من قوة الايمان، في عيون عدد لا يحصى من الحجّاج، وعظمة الحرم المكّي ومجده، وعظمة الحجّ عبر الصحراء والتلال إلى جبل عرفة، إضافة إلى الشعور الدائم بالسعادة والرضا الذي يملأ الروح. ما الذي حملته الأيام الماضية غير اهتمام ودهشة وجمال مطلق؟ بالنسبة لي لقد اكتشفتُ عالمًا جديدًا مذهلًا".

وفقًا للباحث يوسف وليد مرعي، إن قرار تعليق الحج قد اتخذ في الماضي، بسبب ظروف غير متوقعة أو لحماية رفاهية الحجاج. مصدر الصورة: TEA OOR، عبر موقع Shutterstock

لذا، بحسب الاعتبارات التاريخية للحجّ، يتبين لنا أن المسلمون يتمتعون بمرونة فيما يتعلق بموضوع أداء مناسك الحج خاصة فيما يتعلق بالصعوبات التي لا تعدّ ولا تحصى، والتي مرّوا بها بشكل فردي أو جماعي عبر التاريخ. إن القرار الحالي المتعلق بأداء عدد محدود جدًا من المسلمين لمناسك الحج، والذي يهدف إلى السيطرة على انتشار جائحة كوفيد-19 وتأثيراتها على حياة الناس الروحية، ربما أنه سيلعب دورا جوهريا في تعزيز قيمة الحج ومكانته في نفوس المسلمين بالعام القادم، ويمنحه تجربة عميقة وجديرة للتطلع إليها في العام المقبل.

  • البروفيسور يوسف وليد مرعي مؤرخ متخصص في العلاقات بين الأديان بالماضي والحاضر، وأستاذ في تاريخ العلاقات بين الأديان في الشرق الأوسط وتاريخ الأديان بكلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر. يعمل حاليًا على كتاب بعنوان "كهف البطاركة (الحرم الإبراهيمي في الخليل)": مقدمة قصيرة جدًا (ستنشر بالتعاون مع دار نشر جامعة أكسفورد)؛ وكتاب آخر بعنوان "الحجّاج والحج في الإسلام" (ينشر بالتعاون مع دار نشر جامعة إدنبرة ؛ وآخر عن تاريخ العلاقات بين الأديان في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط (ينشر بالتعاون مع دار نشر  جامعة تورنتو).

قصص ذات صلة