للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
أحدثت المنظومة التعليمية السائدة نوعًا من القطيعة بين طائفة واسعة من الأطفال والمدرسة بمختلف أرجاء العالم، وهو ما تسعى حركة المدارس التقدمية جاهدةً إلى إصلاحه.
الأطفال في الغالب لا يحبون المدرسة، إنها ظاهرة لا يُمكن إنكارها. فالعديد من هؤلاء الأطفال لا يجدون حرجًا في الإفصاح صراحةً عن بغضهم للمدرسة. وعندما تسألهم عن السبب، فجوابهم غالبًا ما يدور حول الاستيقاظ المبكر والرتابة اليومية والفصول الدراسية المملة، أو الاضطرار لقضاء الوقت مع زملاء الدراسة.
يُلاحظ الخبراء التربويون أن ثمّة خلل ما يكتنف النظام التعليمي الحديث الذي نعتمده جميعًا ولطالما اعتبرناه من المسلّمات. في هذا الصدد، قال السير كين روبنسون، المستشار التربوي الشهير، في حواره مع مريم الهاجري، مديرة مدرسة "أكاديميتي": "ما أجده مثيرًا للاستغراب حقًا، هو كيف يمكنك أن تغيّر الطبيعة التي يتميز بها الطفل في سنواته الأولى، التي يطغى عليها حب المعرفة والشغف بالتعلّم إلى الشعور بالسأم والضيق والاستياء من المدرسة وعدم الانتماء إليها في سن العاشرة"، ليخلص الخبير إلى أن: "المشكلة هنا ليست في الأطفال ولا في المتعلمين، بل في الطريقة التي نقدم بها التعليم وأجواء المدرسة".
مريم الهاجري والسير كين روبنسون
اللافت أن المنظومة التعليمية لم يطلها أي تغيير تقريبًا منذ القرن الماضي. فعلى الرغم من التغيّرات الجذرية التي طرأت على مجتمعنا، لا زلنا نصطف خلف "نموذج التعليم المصنعي"، الذي تم اعتماده ليلائم احتياجات الحقبة الصناعية، حيث كان يتعين على الشباب اكتساب مجموعة محددة من المهارات حتى يتمكنوا من العمل في المصانع.
ولكي تحقق هذه المنظومة التعليمية غاياتها، يتم تصنيف الطلاب تبعًا لفئتهم العمرية، ويُطلب منهم الجلوس في فصل دراسي مع أحد المعلمين لفترة محددة من الزمن قصد تعلّم منهج دراسي محدد سلفًا. بعد ذلك، يجري اختبارهم وتقييمهم على أساس إتقانهم لهذا المنهج الدراسي. وكلما ارتفع تقييمهم، كلما تضاعفت فرصهم المهنية. هذا هو النموذج التعليمي السائد حاليًا.
منذ بدء الثورة الصناعية، دأبت المدارس على اعتماد مفهوم تعليمي ضيق للغاية ليلبي طلبًا اقتصاديًا، فقد تمت صياغة مفهوم التعليم من منظور يقوم على مبدأ المنفعة. بمعنى آخر، أن العديد من الطلاب يُحرمون من مواد يرغبون في دراستها عن طريق أشخاص يخبرونهم عن حسن نية أنهم لن يحصلوا على وظيفة إذا دأبوا على دراسة تلك المواد.
عمومًا هذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الأطفال لا يحبون المدرسة، إذ يجري تهميش المواد ذات المحتوى الإبداعي الذي يميل إليه الكثير من الأطفال لفائدة موضوعات علمية بحتة، مثل العلوم والرياضيات. ويعد تقييم محتوى هذه المواد أيسر وأكثر مواءمة للمنظومة التعليمية السائدة التي تُعلي من شأن التقييم الكمي لقدرات الطلاب.
من جانبها، أشارت مريم الهاجري إلى أننا نحيا الآن في عصر ما بعد الحقبة الصناعية، وأن عالمنا يتغير بوتيرة متسارعة، ولم نعد نمتلك وضوح الرؤية بشأن أنواع الوظائف التي سيحصل عليها أبناؤنا في نهاية المطاف. كما أن رؤية الطلاب تغيّرت هي الأخرى. فهم لم يعودوا متلقين سلبيين، إذ تراهم في المدرسة يفكرون باستمرار في أشياء من قبيل "لماذا أقوم بهذا؟ وكيف سيساعدني ذلك في حياتي؟ أقول لك شيئًا: أنا أكثر علمًا من أستاذي"، وتضيف الهاجري أن مؤسساتنا لا تستجيب بشكل جيد لهذا التغيير.
الاستجابة لاحتياجات العصر
تهدف حركة التعليم التقدمي إلى وضع تصور جديد للمهام المنوطة بالمدرسة بهدف الاستجابة لهذه التغييرات وتحفيز القدرة الذاتية للأطفال على التعلّم. منذ بزوغ الثورة الصناعية، انبرى العديد من المفكرين الكلاسيكيين، مثل جون ديوي وماريا مونتيسوري، لانتقاد "النظام التعليمي التقليدي"، وطرحوا نظريات جديدة بديلة حول الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها المدرسة.
تركّز هذه النظريات على وضع الطفل في صلب العملية التربوية، وكذا على التفكير الناقد، بدلًا من تدريس الكتب المدرسية التقليدية. وعلى مر السنين، نجحت أفكارهم في التأثير على المناهج التربوية المعتمدة في المدارس العامة. إلا أنه في الآونة الأخيرة برزت العديد من المدارس المستقلة التي دفعت بهذه الأفكار إلى أقصى مدى، محدثةً بذلك ثورة فيما دأبنا على اعتباره من مسلَّمات العملية التعليمية.
وحسب السير كين روبنسون، "فإننا بصدد إعادة وضع طرق جديدة لكيفية عمل المدارس، من خلال تحطيم الحواجز بين الأعمار وبين التخصصات، وبين المعلمين والطلاب". وأضاف: "إن حركة المدارس التقدمية تهتم بالتعليم في بعده الشامل، أي البعد الذي يدمج بين الكفاءة البدنية والروحية والعاطفية. لطالما كانت هذه المبادئ مهمة، إلا أنها صارت اليوم محط اهتمام أكبر".
وقد تبنّت العديد من المدارس في جميع أنحاء العالم هذه الرؤية التقدمية، وكانت النتائج المحققة مذهلة للغاية. في هذا الصدد، قالت الهاجري: "عندما تطأ قدمك إحدى هذه المدارس التقدمية، يمكنك تلمُّس الفارق في وجوه الأطفال، لتدرك على الفور أن هناك خطأ ما في مدارسنا".
مريم الهاجري
مدرسة "أكاديميتي"
إحدى هذه المدارس التقدمية موجودة هنا في دولة قطر. نبتت بذور هذه الفكرة عندما كتبت سعادة الشيخة هند بنت حمد آل ثاني، نائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمؤسسة قطر، أطروحة دراساتها العليا حول التعليم التقدمي. وقد تمكنت من خلال بحثها من وضع رؤية لإطلاق مدرسة تقدمية تكون في خدمة أفراد مجتمع دولة قطر. وقد تولّت مريم الهاجري هذه المهمة، لتقضي سنتين في إجراء البحوث والعمل الميداني في عدّة مدارس من مختلف أنحاء العالم، قبل أن تكلّل مساعيها بالنجاح في إطلاق مدرسة "أكاديميتي" في أغسطس 2019.
وفي هذا السياق، قالت الهاجري: "العودة إلى الأساسيات كانت هدفنا الأول في "أكاديميتي"؛ فأولًا وقبل كل شيء، من المهم أن يكون الطالب متحمسًا ومحبًّا للاستطلاع بشأن كل ما يتعلمه. إن هذا الشغف هو ما نرغب في غرسه في طلاب "أكاديميتي" منذ سن مبكرة".
في مدرسة "أكاديميتي" يختار الطلاب الموضوعات التي يريدون تعلّمها بحرية. ففي كل يوم، هناك أربعة أنشطة مختلفة، تسمى "مهام"، ويمكن للأطفال (الذين تتراوح أعمارهم بين 3-6 سنوات) اختيار المهمة التي يريدون الانضمام إليها. من خلال هذه المهام، يتمكن الطلاب من اكتشاف اهتماماتهم ونقاط قوتهم، ومن ثم أخذ زمام مبادرة تعلّمهم بأنفسهم.
بعد حصة المهام، يُمنح الطلاب ساعة استراحة يقومون خلالها باللعب أو تناول الطعام أو الانخراط في أي نشاط يرغبون فيه. إثر ذلك، يكون للطلاب موعد مع فعالية "قاعات الاستكشاف" التي تتزامن مع نهاية اليوم. وتوجد عدة قاعات بحيث يمكن للطلاب اختيار أية واحدة منها لقضاء وقتهم فيها. وتشمل هذه القاعات "قاعة الأشياء الحية" التي تحتوي على نباتات ومزارع للحشرات، و"القاعة الحسية" التي تحتوي على أضواء وحركات اهتزازية وأصوات، و"قاعة التركيب" التي تحتوي على قطع الليجو وعجين اللعب، وقاعة "المطبخ" لتمكين الطلاب من طهي طعام حقيقي، و"قاعة القراءة" حيث يمكن للطلاب قراءة القصص أو الاستماع إليها، و"قاعة الفعاليات" التي تشمل الفنون والحرف، و"قاعة الإبداع" حيث يمكن للطلاب ارتداء أزياء وتقمّص شخصيات معينة، و"قاعة الموسيقى" التي تتيح للطلاب العزف على عدّة آلات موسيقية.
وقالت الهاجري: "في نهاية المطاف، فإن الأطفال هم من يختارون بأنفسهم الوجهة التي يفضلونها، ومن خلال هذا الاختيار يتسنى لنا معرفة اهتماماتهم. وبذلك، فإننا نضع الطلاب في مسار يتولون فيه مقاليد الأمور". عندما يشعر الطلاب بالتمكين، يتملكهم الإحساس بأن اهتماماتهم وشغفهم سيكون لها أثر. وبالتالي ينتابهم الشعور بالسعادة وهم يتعلمون وينخرطون في العملية التعليمية، ويكونون فرحين بتواجدهم في المدرسة.
وأشارت الهاجري إلى أن أكبر خلل يعتري المنظومة التعليمية السائدة هو افتراضها أن الطلاب والأطفال عاجزون معرفيًّا، وأنهم بحاجة ماسّة إلى استيعاب كمّ ضخم من المعلومات بغض النظر عما إذا كانت لديهم الموهبة أو الشغف بشأن ما يتعلمونه. وإن لم يفعلوا ذلك، فإنهم يحصلون على درجات متدنية، وهو ما يقلّل من منسوب ثقتهم في أنفسهم.
إن للأطفال طاقات مذهلة، وهذه الطاقات بحاجة إلى الخروج إلى الوجود لتوفير حلول للعالم. لقد أضحى من غير المقبول الاستمرار في اعتبار هؤلاء الأطفال أوعية فارغة ينبغي شحنها بالكثير من المعلومات حتى تبدأ في التفكير. كلّا، إنهم قادرون على التوصل إلى حلول مبتكرة لأنهم مبدعون للغاية ولديهم طاقة تفوق ما لدى البالغين، ولهم حسّ استباقي متطوّر. ومن الجميل أن نرى ذلك يتجلّى في رحاب هذه المدارس التقدمية.
الاختلاف ميزة المدرسة التقدمية
تحاول حركة المدارس التقدمية الابتعاد عن الأطر التنظيمية المعتادة. فهي لا تعرض برنامجًا دراسيًا أو منهجًا تربويًا جامدًا على المدارس لكي تتبعه، وإلا فإنها سوف تُتهم بالقيام بما تقوم هي نفسها بتوجيه سهام الانتقاد إليه؛ أي إخضاع التعلّم والتعليم لترتيبات يصعب، بحكم طبيعتها، الالتفاف على تبعاتها. بالمقابل، فإن التعليم المكيّف بحسب الأشخاص يعد عنصرًا رئيسيًا في حركة المدارس التقدمية، على اعتبار أنه لا يُستساغ اعتماد تطبيق أي بنية أو نظرية لتكون صالحة لكل الأطفال. وعليه، فإننا نتبنى على مستوى المدارس التقدمية طريقة مختلفة في الشأن التعليمي، تبعًا لكل حالة على حدة.
في 19 نوفمبر 2019، اجتمع ممثلو سبع مدارس تقدمية أخرى من مختلف أنحاء العالم في "قمة النهوض بالتعليم عبر المدارس التقدّمية"، التي نظمها التعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر. وشكّلت هذه القمة، التي تعد الأولى من نوعها، فرصة لتبادل التجارب والأفكار حول المدارس التقدمية.
Maryam Al Hajri at the LEAPS Summit
حفلت جلسات القمة بالكثير مما يمكن تعلمه وتطبيقه، حيث قامت كل مدرسة ببسط نهجها الفريد المتعلق بالتعليم التقدمي. فعلى سبيل المثال، ركزت مدرسة "Kingsland Pre-Prep"، وهي مدرسة تابعة لمؤسسة "Rocket Productions" في لندن، بإنجلترا، ابتكارها على كيفية تصميم المساحات. ففي هذه المدرسة لا توجد "قاعات دراسية" بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هناك فقط ما يطلقون عليه "مسارح للتعلم"؛ وهي مساحات ملونة ومصمّمة بشكل رائع بهدف مساعدة الطلاب في إطلاق العنان لخيالهم وتشجيعهم أكثر على الإبداع.
مدخل مدرسة "Kingsland Pre-Prep"
بدورها، تدخل مدرسة "Lumiar"، ضمن قائمة المدارس التي تدعو إلى التخلّي عن النموذج التعليمي التقليدي. وتشتهر هذه المدرسة، التي يوجد مقرها في البرازيل، بنهجها القائم على المشروعات، أي أنه بدلًا من تقسيم العملية التعليمية إلى مواد تقليدية، مثل الرياضيات واللغات والعلوم وغيرها، تعمد مدرسة "Lumiar" إلى التعليم من خلال إنجاز مشروعات، التي يتولى تحديد طبيعتها كل من الطالب والمشرف أو المعلم. ويتيح اعتماد نموذج المشروعات للطلاب إمكانية ممارسة اهتماماتهم التعليمية وفي الوقت نفسه تطوير مهاراتهم وكفاءاتهم الموازية. وتبعًا لموضوع هذه المشروعات يحصل الطلاب على المحتوى التعليمي المرغوب فيه، خلافًا للطريقة المعتمدة في بيئة الفصل الدراسي التقليدي.
كما أن الطريقة التي تقيّم بها مدرسة "Lumiar" طلابها تبقى هي أيضًا غير تقليدية. فعوض إخضاعهم لاختبارات وامتحانات لقياس درجات استيعابهم للمعارف المقدمة، فإن منهجية مدرسة "Lumiar" ترتكز بالأساس على التقييم النوعي لمدى تطوير كفاءات الطلاب ومهاراتهم. ويتجلى هذا التقييم عبر نموذج يحمل اسم "مصفوفة الفسيفساء" الذي جرى تطويره خصيصًا لهذه الغاية، حيث يعرض هذا النموذج كل المشروعات التي أنجزها الطالب مع إبراز ما يتعين على الطالب القيام به من واجبات.
تندرج مدرسة "NuVu Studio"، التي يوجد مقرها في ولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية، ضمن المدارس التي لا تتوفر على فصول دراسية. فالمدرسة عبارة عن استوديو مفتوح مصمم لتشجيع طلاب المدارس الإعدادية والثانوية على التعاون والإبداع فيما بينهم. عندما يأتي الطلاب إلى المدرسة، يُطلب منهم خوض تحدٍ واقعي، مع ما يستوجبه من إظهار ملَكَة التعاون بيهم وابتكار حلول لمواجهة التحدي المطروح. ويوجد مدربون متخصصون لتوجيه الطلاب ومساعدتهم في تصميم ابتكاراتهم، فضلًا عن خبراء آخرين، مثل المهندسين المعماريين، والمهندسين، وصناع الأفلام، والمصممين، وغيرهم.
كانت "NuVu Studio" من بين المدارس التي زارتها مريم الهاجري أثناء التحضير لإطلاق مدرسة "أكاديميتي". بخصوص هذه التجربة، قالت الهاجري: "كان طلاب المدارس الثانوية هؤلاء سعداء، ولديهم حسٌ كبير بالانتماء إلى مدرستهم. لم يكونوا يرغبون في مغادرة مدرستهم. كانوا يبقون حتى المساء في هذا المكان الذي وجدوا فيه ذواتهم، وهم يعملون على مشروعات رائعة لم يكن لأحد أن يتوقع إنجازها من قبل يافعين. لقد كان الأمر مذهلًا".
نحو إعادة تصميم التجربة المدرسية
قال السير كين روبنسون: "علينا التخلص من العادات القديمة، خصوصًا تلك التي تفضي إلى خلق ظروف مثبِّطة لرغبة الأطفال الطبيعية في التعلّم. علينا أن نعيد التفكير في الشروط الأساسية للعملية التعليمية بناءً على ما نعرفه بشأن مبادئنا القديمة المتمثلة في ازدهار الإنسان. أعتقد أن هذا سيكون هو مفتاح المستقبل".
أطفال رفقة عضو في هيئة التدريس بمدرسة "أكاديميتي"
من الملاحظ أن حركة المدارس التقدمية آخذة في كسب زخم متنام في جميع أنحاء العالم. فقد بدأت العديد من المدارس الابتكارية التي تتخلى عن النموذج التقليدي في الظهور في عدّة أماكن. كما بات المزيد من المتدخلين في الشأن التعليمي مقتنعين بقيمة إصلاح المنظومة التعليمية التقليدية عبر تفعيل طرق جديدة. واستشرافًا للمستقبل، ثمّة مستجدّات ينبغي توقعها والاستثمار فيها من أجل هذه الغاية، وهي مستجدات من شأنها، حسبما يؤمل، أن تفضي إلى تجربة مدرسية أفضل للجميع.