للاطلاع على آخر المعلومات والمستجدات من مؤسسة قطر حول فيروس كورونا، يرجى زيارة صفحة التصريحات الخاصة بمؤسسة قطر
الدكتورة بسمة الدجاني وطلابها من غير الناطقين بالعربية أثناء احتفالهم باليوم العالمي للغة العربية
الدكتورة بسمة الدجاني، أستاذة اللغة العربيّة بجامعة حمد بن خليفة، تُلقي الضوء على أبرز التحدّيّات التي تُواجهها اللغةُ في مطلع العقد الجديد وسُبل مُعالجتها
لا يستطيع أحدٌ إنكارَ مكانةِ اللغةِ العربيّة كإحدى أهمّ لُغاتِ العالم، ومِن أكثرها تميّزًا وثراءً، فهي تمتلك موسيقى اللفظِ وتَوازنه، وحُروفها تنطق بالحكمةِ والرصانة، وتتّسم بالرشاقة وحبكة المناورة بالحرف، كالجواد يقفز فوق المعاني والخواطر فتخرج الكلماتُ بِسلاسةٍ أقرب ما تكون مِن حقيقةِ المعنى والغرض.
اختّصها اللهُ سُبحانه وتعالى لتكونَ لُغة القرآن الكريم ولُغة رسوله مُحمّد صلّى الله عليه وسلّم. ومِن الدلائل الدامغة على قُدسيّة اللغة العربيّة وعراقتها قَوله تعالى: } إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {، و } الرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{، وهي لُغة فطاحل الشُّعراء والأدباء منذ ألفيّتين، لذلك تُعتَبر أمّ اللغاتِ المُعاصرة ومِن أقدمها على أديمِ الأرض.
الدكتورة بسمة الدجاني
لكن أين يقف مُتحدّثو لُغةِ الضاد مِن عراقة لُغتهم اليوم؟ وما هي التحدّيّات التي تُواجهها اللغةُ العربيّة في الوطنِ العربي والعالم؟ وما هي أسبابها؟ تُجيب الدكتورة بسمة أحمد صدقي الدجاني، أستاذة اللغة العربيّة وثقافتها، بِكُلّيّة الدراسات الإسلاميّة، في جامعةِ حمد بن خليفة، عضو مؤسّسة قطر، عن تلك التساؤلات وتُلقي الضوءَ على سُبلِ مُواجهةِ تحدياتٍ تُواجهها اللغةُ العربيّة في مَطلعِ عقدٍ جديدٍ يستقبله العالَمُ بِمَزيدٍ مِن التحدّيّات والتساؤلات على شتّى الأصعدة.
اللغةُ والهويّة وَجهان لِعُملَةٍ واحدة
في عصرنا الحالي، أصبح العالمُ متّصلاً بِبَعضِه البعض بِصُورةٍ غير مَسبوقة، فقد نجحت وسائلُ التكنولوجيا الحديثة، وإمكانيّة نقل المعلوماتِ مِن خلالِ الفضاءِ الرقمي في كسرِ كثيرٍ مِن الحَواجز الثقافيّة، وأصبحت المعلوماتُ والأخبارُ عابرةً للقارّاتِ بِصُورةٍ أسرع مِن أيّ وقتٍ مضَى.
يستطيع أيٌّ مِن أبناءِ اللغةِ أو مُتعلّميها اليوم أن يقرأ مخطوطةً باللغةِ العربيّة يزيد عُمرُها عن ألفِ سنة، وهذا شيءٌ فريدٌ مِن نَوعه
في هذا السياق، توضّح الدكتورة الدجاني دورَ اللغاتِ بِشكلٍ عامٍّ وقيمتَها على المستوَى الفردي والمُجتمعي قائلة: "اللغةُ هي وسيلةُ التفاهُم مع الآخر، وقد خلقنا الله شُعوبًا وقبائل مُختلفة لِنَتعارَف، ونَتَقَبَّل اختلافاتِنا، وجاءت اللغاتُ أداةً لتحقيقِ هذا الغرض. وفي ظِلِّ واقعنا الحالي وعالَمِنا الذي أضحى قريةً صغيرةً نتأثّر فيه بِبَعضِنا البعض ويؤدّي كُلٌّ مِنّا دَورًا فاعلاً في حَياةِ الآخر، بات مِن الضروريّ أن يُحافظَ كُلُّ فردٍ على هويّته الخاصّة التي تُعبّر عن ذاتِه وكَينونته وحضارته، وهنا يبرز دورُ اللغةِ في التعبيرِ عن هُويّة الشعوبِ والأمم وصقل شخصيّة الفردِ وتعزيز انتمائه".
وأردفت: "عندما نتحدّث عن اللغةِ العربيّة تحديدًا، فإنّنا نتحدّث عن واحدةٍ مِن أعرق لُغاتِ العالَم وأغناها، لُغةٌ امتدّ حَبلُ وَصلها لألفٍ وخمسمائة عام، حيث يستطيع أيٌّ مِن أبناءِ اللغةِ أو مُتعلّميها اليوم أن يقرأ مخطوطةً باللغةِ العربيّة يزيد عُمرُها عن ألفِ سنة، وهذا شيءٌ فريدٌ مِن نَوعه؛ فالعربيّة هي لُغةٌ بِلا فجوات عبر التاريخ، وليست ثمّة تغييرات أو تعديلات جَوهريّة يُمكنها التفريق بين اللغةِ المستعملة اليوم وقديمًا، فيستطيع المرءُ أن يتحدّث ويتفاهم باللغةِ ذاتها، ويُعتبر ذلك عُنصرَ جذبٍ لِتَعلّمِ العربيّة ليس له مثيل بين لُغاتِ عالَمِ اليوم ".
وتابعت: "مِن هنا، فإنّ تقديرَ لُغتنا العربيّة وتعليمها للآخرين يُمثّل مسؤوليةً علينا نحن أبناء اللغة، والاجتهاد في تَعلّمِ اللغاتِ الأخرى يُعدُّ أمرًا غايةً في الأهمّيّة مِن أجلِ تَوصيل الأفكار بِشكلٍ صحيحٍ وتَوسيع مجالات النقلِ والمعرفة في العُلومِ جميعها كما سبق في عُصورِ ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة".
تعتقد الدكتورة الدجاني بِضرورة حُصول الوافد إلى بلدٍ ما - لِغَرضِ العملِ أو الدراسة – على قدرٍ ولو بسيطٍ مِن لُغةِ البَلد المُضيف.
النهوض باللغة العربيّة لِمُواكبة العَصر
ووفقًا للأستاذة الدجاني، تُواجه اللغةُ العربيّةُ تحدّياتٍ راهنةً في جذبِ أبنائها وإعادتهم إلى مَرافئها بعد عُقودٍ مِن التباعُد والتجافي مِن جِهةٍ، وجذب الراغبين في تعلّمها؛ سَواء ضمن حُدودِ مَواطنها أو خارجها، بِغاياتهم المتنوّعة مِن جِهةٍ أخرَى.
حيث تقول: " هناك ثلاثة أسباب رئيسيّة وراء تراجُع تعليمِ العربيّة وتعلّمها، أوّلها يتلخّص في عدمِ اختيارِ المُحتوَى المناسب للمناهج الدراسية وعدم تجديد الأساليب التي تُقدّم بها، مِمّا أدى إلى إحداثِ فجوةٍ كبيرة بين أبناءِ اللغة العربيّة ولُغتهم منذ الصفوف الإبتدائيّة. لذا، فإنّ تجديد منهجيّة تعليم اللغة العربيّة وتماشيها مع ما يميل إليه طلّابُ هذا العصر يُعدّ أمرًا ضروريًّا، وعلى سبيل المثال: قد نأتي على ذِكرِ العصرِ الذهبي كثيرًا في مناهجنا دون التطرّق لتفاصيل ذاك العصر وارتباطه بعالَمنا اليوم، فماذا لو حدّثنا الطلّاب عن كيفيّةِ عملِ كاميرا هواتفهم الخلويّة التي يستعملونها بِشكلٍ يومي في إلتقاط صور "السيلفي"، وعن أصلِ اختراعها وارتباطها بِجُذورِ اكتشافاتِ ابنِ الهيثم، فذاك حتمًا مِن شأنِه تحفيز الطالب على البحثِ في تاريخه، ويبعث شُعورًا بالفخر يجعل الطلّاب أكثر شغفًا للاطّلاع على إنجازات ماضيهم والارتباط به".
ماذا لو حدّثنا الطلّاب عن كيفيّةِ عملِ كاميرا هواتفهم الخلويّة التي يستعملونها بِشكلٍ يومي في إلتقاط صور "السيلفي"، وعن أصلِ اختراعها
وتجدر الإشارةُ هنا إلى جُهودِ مؤسّسة قطر الحثيثة في تطويرِ واستحداثِ آليات مواكبة العصر وأدواته في تعليمِ اللغةِ العربيّة عبر مدارسها وجامعاتها مِن خلال إشراك الطلّاب في الأنشطةِ الإبداعيّة التي تُركّز على اللغة العربيّة، ومنحهم فرصةَ ابتكارِ المُحتوى الخاصّ بِهم والذي يُعبّر عن أفكارهم، مِن خلال العملِ المسرحي وكتابةِ القصص، وعمل الأفلامِ القصيرة ومُحاكاة نشراتِ الأخبار، وكيفيّة تسخير وسائل التكنولوجيا في تعزيزِ استخدامِ اللغةِ العربيّة.
وتابعت الدكتورة بسمة: " أمّا السبب الثاني وراء تراجع تعليم اللغة العربيّة، فيتلخّص في تركيزِ الأسرةِ في العُقودِ الأخيرة على تعليم أطفالها الإنجليزيّة وإتقانهم لها، باعتبارها لُغة العَولمة في الوقتِ الراهن، وهو أمر حتمًا مرغوب، بل يُحبّذ تعليمهم أكبر عددٍ مِن اللغاتِ، ولكن كلغاتٍ ثانية دون أن تحلّ محلّ لُغتهم الأمّ. فإنّ حِرصَ الأسرةِ ووَعيها بأهمّيّةِ اللغةِ الأمّ ومَكانتها واحترامها، مِن شأنِه خلق أهمّيّة خاصّة للغةِ الأمّ مَهما تعلّم الطفلُ مِن الألسن الأخرى. كذلك بالنسبةِ لِمُختلفِ المؤسّسات التعليميّة، فيجب أن يقتصرَ الحديثُ بالعامّيةِ على الحوارِ خارج إطارِ التعلّمِ وفي مَهارتي المحادثة والاستماع، ولكن بِمجرّد دُخول الطلّاب الصفّ، يجب احترام التحدّث باللغةِ الفصيحة واستعمالها في مهارتي الكتابة والقراءة.
أمّا بالنسبة للسببِ الثالث، فيرجع إلى قلّةِ المساعي والجُهود المبذولة مِن الدولِ لنشرِ اللغةِ العربيّة عالميًّا، فمِن الضروري تفعيل الجُهود في هذا المجال بِما فيها نشاط الترجمة على سبيلِ المثال، لِما سيعود على اللغةِ العربيّة مِن نشرِ ثقافةِ العالم العربي وتاريخه، بل، وكذلك المكاسب الأخرى التي ستتحقّق على الصعيدِ المادّي والاقتصادي".
شملت الجُهود التي تبذُلُها مؤسّسة قطر لتعزيزِ اللغةِ العربيّة على نِطاقٍ عالميّ إطلاق مُبادرة "TED بالعربي" في عام 2020 بالشراكة مع مؤتمر تيد لمدّة عامين، وهي منصّة تُتيح للناطقين باللغةِ العربيّة مِن جميعِ أنحاء العالم مُشاركة أفكارهم مع جُمهور جديد باللغةِ العربيّة. وستضمّ مكتبة رقميّة خاصّة بـ "TED بالعربي" غنيّة بِمَوضوعاتٍ تهمّ العالم الناطق بالعربيّة، وسيظلّ ذلك المحتوى مُتوفّرًا ومُتاحًا عبر شبكةِ الإنترنت حتّى بعد انتهاءِ فترةِ الشراكةِ بين كلٍّ مِن مؤسّسةِ قطر وتيد كمصدر لتحفيز خَيال الأفراد في المجتمعاتِ الناطقةِ بالعربيّة، وتمكينهم مِن الاستمرارِ في مُشاركةِ أفكارهم على نِطاقٍ عالَمي.
تعلّم لُغة الآخر، وتعليم الآخر لُغتنا
تعلّم اللغةِ الأمّ وإتقانها يجب أن يكون له الأولويّة دائمًا، ولكن ذلك لا يعني إهمال تعلّم اللغات الأخرى، فقد أثبت العلمُ قُدرةَ الأطفال في مرحلةِ الطفولةِ المُبكّرة على استيعابِ لُغاتِ في سِنٍّ مُبكّرةٍ إلى جانبِ لُغتِهم الأمّ. وإنّ تعرّفهم على اللغاتِ الأخرى ومُمارستها يُعزّز لديهم شُعورًا باحترامِ الآخر، ويُعزّز إدراكَهم بأنّ التعدّديّة والاختلاف بين الأمم وثقافاتها أمرٌ طبيعي وواجب احترامه. يقول الشاعر العربي صفيّ الدين الحلي:
بِقَدرِ لُغاتِ المَرءِ يكثر نَفْعُه *** فتلك له عند الملمات أعوان
تهافت على حفظِ اللغاتِ مُجاهدًا *** فكلّ لِسانٍ في الحقيقةِ إنسان
بالتأكيد أشعر بترابط أكثر ممّا مضى بثقافة المجتمع وتقاليده
أمّا بالنسبة لتعليم اللغة العربيّة لِغيرِ الناطقين بها، فتعتقد الدكتورة الدجاني بِضرورة حُصول الوافد إلى بلدٍ ما - لِغَرضِ العملِ أو الدراسة – على قدرٍ ولو بسيطٍ مِن لُغةِ البَلد المُضيف، لأنّ ذلك أمرٌ ضروري لِلتفاهُم والتفاعُل الاجتماعي أثناء ممارسة الحَياة اليوميّة، ويُساهم في فهمِ ثقافةِ المجتمع الجديد وتقاليده بالنسبة له، ويُعجّل بِسُرعة اندماجه مع المُحيطين مِن حوله.
أجاثا براجا، هي من غير الناطقين بالعربية والتي اختارت أن تتعلمها
وفي هذا الصدد، تقول أجاثا براجا، بولنديّة الجنسيّة، وإحدى أعضاء فريق الإعلام الرقمي ضمن إدارة الاتّصال بمؤسّسة قطر، والتي تدرس اللغة العربيّة للسنة الرابعة: "أعتقد أنه من الصعب فهم بلد ما وثقافته دون التحدّث بلغة شعبه. لقد بدأت رحلتي في تعّلم العربيّة بدافع الفضول لفكّ رُموز الكلمات العربيّة في الشوارع، وسرعان ما تحوّل الفضول إلى رغبة أعمق لفهم المحادثات مع الزملاء والأصدقاء الناطقين باللغة العربيّة ومشاركتهم الحوار".
وأردفت أجاثا: "بالرغم من بعض الصعوبات التي أواجهها في ممارسة اللغة العربيّة كوننا نتواجد في مجتمع متعدّد اللغات واللهجات، إلّا أنّني بالتأكيد أشعر بترابط أكثر ممّا مضى بثقافة المجتمع وتقاليده، كما أن تعرّفي على خوارزميّات اللغة ومنطقيتها التي تعتمد على جِذرِ أو مصدر للكلمة، يُمكنني مِن خلاله معرفة مختلف المشتقّات، قد زاد مِن عشقي لتلك اللغة الفريدة."